الناس أجناس.. ومراتب ودرجات، والشيوخ الذين سأتحدث عنهم لا علاقة بهم بـ “مجلس الشيوخ” الموجود في بعض أنظمة الدول السياسية، مع أنهم يحكمون بالقوة “الناعمة” إياها!
تعني كلمة “الشيخ” باللهجة العربية المنقرضة: الكبير أو الطاعن في السن. ويقابلها كلمة “ختيار” في اللغة الشامية الفصحى، أو “عغوز” في اللغة المصرية الفصحى، أو “شايب” في اللغة العراقية الفصحى، وهكذا. وغالباً ما كان يستعاض عن استخدام مفردة “الشيخ” بكلمة أخرى هي “الحاج” من قبيل الأدب أو اللباقة.. حصل هذا قبل أن تنتشر موضة ذهاب شبابنا إلى الحج، ليحصلوا على اللقب في ريعان شبابهم، رغبة في استعارة الوقار والوجاهة.
والشيخ الأكثر شهرة في العالم، هو الشيخ “سانتياغو”، بطل رواية “الشيخ والبحر” للروائي الأميركي أرنست همنغواي.. مع أن معظم “شيوخنا” لا يعرفونه. سانتياغو هذا.. يدخل في أواخر عمره في لعبة قاسية مع الأقدار، والمصير، والحظ، والطبيعة. وتنتهي الرواية بانتصاره، بصيد سمكة “مارينا” عملاقة يعجز الشبان عن اصطيادها. هذا النوع من الشيوخ نادر.. خاصة في ثقافتنا حيث يتطلع معظمنا إلى التقاعد في أقرب وقت ممكن، من دون أن يمنع ذلك من رغبة الكثيرين في العودة إلى مشاغباته الحميمة، تيمناً بأجواء “رجوع الشيخ إلى صباه” الشهيرة في تراثنا العريق.
أما النوع الثاني من الشيوخ، فهو شيوخ القبائل. وغالباً ما يدعى شيخ القبيلة بـ “أبو دحام” لأنه يكون أول من يدحم عند اشتداد المصائب والكروب (ويعف عند المغنم ودعوات الغداء والتقاط الصور). وأبو دحام.. يحل جميع المشاكل، يدفع من جيبه، يساعد الفقراء، ويصبر على نذالات الأشرار ومكائدهم.. حتى ولو كانوا بمستوى “بطيحان” الخسيس.
يناديه الجميع “يا عمي الشيخ!”، ولكنه يخسر المعركة مع بطيحان في الحلقات الأولى من أي مسلسل بدوي، فيتزعم بطيحان القبيلة، ويتزوج “مزنة” أجمل بنات القبيلة، ابنة عم وحبيبة دحام، ولي العهد. ويحدث كل ذلك.. كانعكاس لمبدأ حياتيّ واضح، التقطه وعبّر عنه، ابن عمنا البدوي الكندي ليونارد كوهين في أغنيته الشهيرة التي تقول: “الكل يعلم ..الحرب انتهت، والكل يعرف.. الرجال الطيبون خسروا”.
وبالطبع تستمر زعامة بطيحان في معظم حلقات المسلسل، وفي الحلقة الأخيرة.. التي تنتظرها الجماهير على أحر من الجمر، والتي من المتوقع فيها أن يعود دحام إلى القبيلة ويثأر لأبيه وللطيبين، تنقطع الكهرباء في جميع دول العالم العربي..
والنوع الثالث من الشيوخ، هم شيوخ الكار. وهؤلاء الشيوخ كانوا منتشرين في معظم البلاد والبقاع العربية. وهم خبراء ومجربون و نزيهون لا تأخذهم في الحق لومة لائم. يلجأ الناس إليهم في الخلافات والنزاعات التجارية أو الصناعية، فيحكمون بحسب خبرتهم.. ويقبل الآخرون أحكامهم دون تذمر. ولقد انقرض هذا النوع من الشيوخ.. منذ الوقت الذي أصبح لنا فيه مؤسسات قضائية ووزارات عدل ومحامون بعدد شعر الرأس، فانتشر الظلم، وغابت العدالة، ومن وقتها بدأ يشيع المثل القائل: “ياما في السجن مظاليم”. الظلم أصبح شائعاً ولا يستفز أعصاب أحد.
النوع الرابع من الشيوخ، هو ما يمكن أن نطلق عليهم “شيوخ الشباب”. ولقب “شيخ الشباب” يرادفه في تراثنا القريب “القبضاي” أو “الزكرت”. وهو شخص منفتح وصريح ومتفهم و”دوغري”، يتفهم سلوك الآخرين ودوافعهم، ويقدر وجود الآخرين واختيارتهم.
وأخيراً، هناك شيخ من النوع المألوف، يحبب الكثيرون وجوده، مع أنه ثقيل على المعدة. يحرص عليه الأغنياء، ويتيهبه الفقراء والمساكين وأبناء السبيل. جليل في المناسبات والموائد العامرة.. تمتد الأيادي إليه لتتبرك بحضوره.. مكتنز.. كثير اللحم.. تفوح منه الروائح التي تثير الشهية.. فهو كثير البهارات لإزالة “الزفرة”. تعرفونه بالطبع.. إنه شيخ المحشي!
لقد انقرض الشيخ سانتياغو، وانقرض شيوخ القبائل، وانقرض شيوخ الشباب والقبضايات والزكرتاوية، وانقرض شيوخ الكار، ومازال شيخ المحشي يقاوم.. مع أنه يرفع الكوليسترول ويسبب كل أنواع الجلطات القلبية والدماغية، ومازال يقاوم.. إلى الدرجة التي يكاد فيها أن ينسف نظرية “النشوء والارتقاء”.
مع أن البعض يقولون إن “نظرية النشوء والارتقاء” هي نظرية منسوفة أصلاً.. وهؤلاء -ياللصدفة- شيوخ!..
Leave a Reply