كمال ذبيان – «صدى الوطن»
كانت لافتة زيارة قائد الجيش اللبناني، العماد جوزف عون، إلى فرنسا في أواخر شهر أيار المنصرم حيث تم استقباله في قصر الإليزيه من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون بعد لقائه بنظيره الفرنسي ووزيرة الدفاع في باريس.
اللافت في الزيارة أنها تأتي في سياق تحوّل فرنسي في التعاطي مع أزمة بلاد الأرز بعد تعثر مبادرة ماكرون في دهاليز السياسة اللبنانية، وهو ما دفع باريس –في الآونة الأخيرة– إلى مقاربة مختلفة للملف اللبناني عبر التوجه نحو المجتمع المدني والقوى الناشطة في الحراك الشعبي بدلاً من الطبقة السياسية الحاكمة. فتمت لقاءات عديدة ضمت مسؤولين فرنسيين وممثلين عن المجتمع المدني، كما حرص وزير الخارجية جان إيف لودريان، في زيارته الأخيرة إلى لبنان، على مقاطعة القوى السياسية، والاجتماع مع قوى وأفراد ينشطون في مواجهة السلطة ويدعون إلى الإصلاح ومحاربة الفساد، وقد دعاهم إلى الاستعداد للانتخابات النيابية المقررة في العام القادم، لحصد أكبر عدد ممكن من المقاعد البرلمانية لإحداث التغيير المنشود في بيئة النظام السياسي.
وأمام التوجه الفرنسي الجديد إزاء الملف اللبناني، يبرز السؤال الأهم: ماذا سيكون دور الجيش في السيناريوهات المحتملة؟
المؤسسة العسكرية
الرهان الفرنسي على دور للمجتمع المدني، لم يمنع باريس من أن تتوجه إلى المؤسسة العسكرية، التي تلقى دعماً تسليحياً وتدريبياً فرنسياً منذ تأسيس الجيش اللبناني في كنف الجيش الفرنسي، في مرحلة ما قبل الاستقلال عام 1943، حيث كان الجيشان السوري واللبناني، جيشاً واحداً باسم «جيش الشرق»، تحت إشراف الانتداب الفرنسي.
ومع استقلال لبنان وجلاء القوات الفرنسية عنه في نهاية عام 1946، استمرّت العلاقة بين الجيشين الفرنسي واللبناني، على مستوى التدريب والتسليح والدورات. وبدخول النفوذ الأميركي إلى المنطقة في خمسينيات القرن الماضي، انضمت واشنطن إلى دعم جيش لبنان فمدته بالسلاح والعتاد والتدريب.
وإذا كان الجيش اللبناني قد نشأ وترعرع في كنف فرنسا ثم الولايات المتحدة، فإنه شهد تحولات كبيرة خلال فترة ما بعد اتفاق الطائف والوجود العسكري السوري في لبنان، سواء عبر تبني عقيدة قتالية معادية لإسرائيل أو في إعادة الوحدة إلى الجيش على أساس وطني لا طائفي، بقيادة العماد إميل لحود الذي أصرّ على دمج الألوية والأفواج العسكرية التي فرط عقدها خلال الحرب الأهلية، وعمل على تعزيز الجيش وتسليحه بشتى الوسائل الممكنة، بما في ذلك تزويده بأسلحة روسية الصنع، وهو ما أزعج أميركا خصوصاً والغرب عموماً، خشية أن يتحوّل الجيش اللبناني إلى ذراع سورية وروسية في المنطقة، فامتنعت واشنطن عن تسليحه وتدريبه، إلا ما ندر، إلى أن حصل الانسحاب السوري من لبنان، فعاد الاهتمام الأميركي بالجيش، في مسعى لتحييده عن الصراع مع إسرائيل وفك ارتباطه بالمقاومة، عسى أن يعود حارساً للهدنة في الجنوب، التي اخترقها العدو الإسرائيلي باعتداءاته على لبنان، واجتياحه عام 1978 و1982.
حلّ احتياطي
في السياسة، لا يحسب أي تحرك لقائد الجيش في لبنان، إلا تحت عنوان، الطموح للوصول إلى الرئاسة، وهي التجربة التي نجحت أول مرة، مع فؤاد شهاب، الذي تولى الرئاسة بتوافق أميركي–مصري بعد أحداث عام 1958.
فكان التطلّع إلى قائد الجيش، اللواء شهاب، كإطار حل وتسوية للنزاع الداخلي ذات الامتدادات الإقليمية والدولية، وهو الذي سبق وأن عُيّن رئيساً للحكومة بعد استقالة رئيس الجمهورية بشارة الخوري في 18 أيلول 1952، تحت ضغط المعارضة والإضرابات والاعتصامات، فأمّن شهاب، مرحلة انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد خمسة أيام، بانتخاب أحد أركان المعارضة، كميل شمعون. ومنذ ذلك الحين بات موقع قائد الجيش بمثابة الحل الاحتياطي لأي أزمة داخلية.
وقد أصدر العميد المتقاعد، فؤاد عون، كتاباً في أواخر الثمانينات بعنوان «الجيش هو الحل»، لإخراج لبنان من حروبه الداخلية وحروب الآخرين على أرضه، وهو بذلك كان يدعم وصول قائد الجيش آنذاك، العماد ميشال عون، لرئاسة الجمهورية، لكن الأخير استبعد في الاتفاق الأميركي–السوري، عام 1988، بين الرئيس حافظ الأسد والموفد الرئاسي الأميركي ريتشارد مورفي الذي سمّى النائب مخايل الضاهر مرشحاً لرئاسة الجمهورية مخيّراً اللبنانيين بين انتخاب الضاهر أو الفوضى، فعمّت الحروب الداخلية لبنان لسنتين إضافيتين إلى أن عُقد اتفاق الطائف، وتم التوصل إلى إنهاء الحرب الأهلية بانتخاب رينيه معوض رئيساً للبلاد رغم معارضة عون الذي اضطر في نهاية الأمر إلى مغادرة لبنان إلى منفاه الفرنسي.
اغتيل معوض بعد أسبوعين من انتخابه، فأتى الياس الهراوي رئيساً للجمهورية ليكون آخر رئيس للبلاد من خارج المؤسسة العسكرية، حيث خلفه منذ ذلك الحين ثلاثة قادة سابقين للجيش هم إميل لحود وميشال سليمان ثم ميشال عون.
مشروع رئيس
مع اقتراب الرئيس عون، من نهاية عهده وهو في السنة الخامسة منه، بدأ التداول بالأسماء المحتملة لخلافته، مثل سليمان فرنجية وجبران باسيل وسمير جعجع وغيرهم، إلا أن نائب رئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، فجّر مؤخراً قنبلة سياسية بوجه كل المرشحين المحتملين للرئاسة، بترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، بل دعاه إلى تسلم السلطة وإدارة شؤون البلاد من خارج المسارات الدستورية، وذلك لوقف الانهيار الحاصل على كل المستويات.
اعتبر كلام الفرزلي، رسالة موجهة إلى الطبقة السياسية، لاسيما الموارنة الطامحون لرئاسة الجمهورية، بأنكم لستم الحل، بل الحل هو في الجيش وقائده، الذي يعتبر مرشحاً طبيعياً للرئاسة، لاسيما وأن الظروف المحلية والدولية مؤاتية لتأمين عبوره إلى قصر بعبدا، في ظل الإفلاس السياسي والحزبي للطبقة الحاكمة، والانفتاح الغربي اللافت على القائد الحالي للجيش، جوزف عون، الذي ينفي –بدوره– أنه يعمل من أجل الوصول إلى الرئاسة.
ولا شك أن استقبال ماكرون للضيف اللبناني في قصر الإليزيه لمدة 45 دقيقة، كان «سابقة» لا يمكن إلا أن تكون ذات مقاصد سياسية، خاصة وأن الرئيس الفرنسي يدرك تماماً ما سيحدثه هذا الاستقبال من تأويلات في بيروت.
فقد أراد ماكرون من خلال استقبال العماد عون توجيه رسالة واضحة للطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، بأن البديل موجود.
ولفرنسا دور مؤثر تاريخياً في صناعة اسم رئيس الجمهورية في لبنان، وهذا ما حصل مع ميشال سليمان الذي سماه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، بالاتفاق مع صناع قرار دوليين وإقليميين، كالولايات المتحدة ومصر.
ويتمتّع قائد الجيش الحالي بثقة شعبية داخلية، لحرصه على الجيش عن الصراع السياسي الداخلي، وعدم تحوّله لأداة قمع بيد السلطة الحاكمة، بوجه الحراك الشعبي ضد الجوع والفقر والبطالة والانهيار المالي. وقد قالها عون صراحةً –قبل أشهر– بأن الجيش هو الشعب، موجهاً رسالة تحذير إلى السلطة السياسية من غضب الناس، وأن الجيش لا يمكنه الصمود أكثر في ظل انهيار القدرة الشرائية لدى المواطنين، وتراجع سعر صرف الليرة. وقد رأى البعض في رسالة عون إلى العسكريين، دعوة للانتفاضة على الطبقة الحاكمة، وهو ما لفت أصحاب القرار في العالم، فالتقطوا الرسالة، وبدأوا البناء عليها كإطار للتغيير، إذ ترى مراجع دولية، بأن قائد الجيش –من دون انقلاب، وباختيار حر– قد يكون هو الحل أو البديل عن القوى السياسية الفاسدة، مدعوماً بحراك شعبي مدني، قد يكون كفيلاً في قلب الموازين الداخلية للانتقال بلبنان إلى مرحلة جديدة.
البحث عن بديل
إذا كان العماد جوزف عون قد حاول إعطاء زيارته الباريسية طابعاً تقنياً يتعلق بتسليح الجيش وتوفير الدعم الغذائي واللوجيستي لمساعدة المؤسسة العسكرية على تخطي الأزمة المالية–المعيشية التي تعصف بلبنان، فإن البعض قرأ في الزيارة الأخيرة أبعاداً سياسية لا يمكن تجاهلها على خلفية الأزمة التي يمر بها لبنان، وإصرار المجتمع الدولي على إجراء إصلاحات واسعة لفتح باب المساعدات الدولية.
فالسلطة السياسية الحاكمة المهددة بعقوبات محتملة، تبدو شبه عاجزة عن الخروج من عنق الزجاجة، وهذا ما يعزز إمكانية حصول تغييرات جذرية على الساحة اللبنانية خلال الفترة القادمة خاصة مع اقتراب استحقاقات الانتخابات البلدية والتشريعية ورئاسة الجمهورية. وعلى هذا الأساس، تنشغل فرنسا –وخلفها الولايات المتحدة– بالبحث عن البديل سواء من المجتمع المدني أو المؤسسة العسكرية.
Leave a Reply