هذا المقال ملخص لترجمة كتاب تحت عنوان «يهود عدن» THE JEWS OF ADEN وهو كتاب أخرجه وأصدره فريق مشترك من متحف وناد ثقافي بلندن في نيسان (أبريل) 1991، والمتحف هو متحف لندني يعنى بحياة اليهود وتاريخهم London Museum of Jewish Life. حيث تشكل الفريق من رئيس تحرير، كمشرف مراجع هو ريكي بورمان، والكاتبة الباحثة شونا بلاس، كاتبة النص، بالإضافة إلى أعضاء آخرين، من عدة أسر يهودية بلندن، أمدوا الباحثة بمادة مؤثرة، وثائقية ومسجلة.إذ يروي شاهد من شهود يهود عدن أن الضباط الإنكليز قاموا جنباً إلى جنب مع جنودهم من جيش المحمية (الليوي) بالبدء بإطلاق النار على يهود عدن المدنيين في منازلهم بعد منتصف الليل وليس المواطنون اليمنيون هم الذين بدأوا بالاعتداء كما يظن البعض. وتلقى في الكتاب علاقة التسامح الديني والود اللذين كانا قائمين بين المواطنين اليمنيين والجماعة اليهودية، حيث كان اليمنيون يقدمون الهدايا إلى اليهود في أعياد اليهود الدينية وبعض المناسبات.وفي الكتاب نتعرف على الشاعر اليهودي اليمني الشهير بالشبزي، بالإضافة نبذة تاريخية عن بدء استقرار اليهود في اليمن ونشاطهم التجاري.وأهم من ذلك تفضيل اليهود لمدينتهم عدن على لندن وإسرائيل، وذكر ذلك بعبارات مؤثرة، تصف عدن وصفاً دقيقاً يعرفه من يعرف المدينة معرفة حقة. استقرار ونمو السكان اليهودبناء على الرواية التاريخية، فإن استقرار اليهود في جنوب بلاد العرب يمكن إرجاعه إلى ما قبل عام 2000م، وذلك إلى تاريخ هدم المعبد الأول في القدس، ومع ذلك فإن التسجيلات الأثرية المادية تؤرخ لنا حياة اليهود في عدن منذ فترة القرون الوسطى.بل أن عدداً من شواهد القبور في عدن يسجل تاريخه في القرن الثاني عشر الميلادي، كما أن 150 مخطوطا أو وثيقة من وثائق الجنيزا في القاهرة تشهد بوجود جماعة يهودية لها دورها المزدهر في ذلك العصر في عدن واليمن.وخلال ذلك العصر أيضاً اتصل يهود اليمن بالجماعات اليهودية الأخرى عبر عدن، فقد اشتهر العدني اليهودي أبو علي حسن بن بندر باللقب اليهودي «سارها كهيلوت» أي رئيس التجمعات اليهودية الدينية، في إشارة بذلك إلى أنه رئيس الجماعات اليهودية في عدن واليمن.وقد لعب يهود عدن دوراً مميزاً في العلاقات اليهودية العالمية خلال تلك الفترة، وكانت لهم غالباً روابط دينية واجتماعية مع جميع الجماعات الأخرى، في نطاق الامبراطورية الإسلامية، وخضع التجار والحرفيون اليهود إلى أكثر من عشرين ميناءً مختلفاً في الهند وسيلان للمجلس القضائي اليهودي بعدن (محكمة عدن الحاخامية).وقد عرف يهود عدن بأنهم مولعون بالكتب العبرية، وأسهموا بشكل منتظم في العناية بالأكاديميات الدينية في العراق وفلسطين، مزودين إياها بتلك الكتب بما فيها أعمال بن ميمون والتي تسمى «الميمونايدز».وقد ازدهر كيان يهود عدن خلال القرن السادس عشر الميلادي، ولم يشكل حلول الأتراك العثمانيون بعدن بدلاً من السلطة المحلية عام 1538م، أي ضرر عليهم، أو أن ذلك لم يؤثر عليهم بشكل سيء. ومع ذلك فقد ساءت التجارة وانخفضت إلى أقصى حد في القرن الثامن عشر تحت حكم السلطان القبلي في لحج، وتردت عدن إلى أسوأ حال واضمحلال.ومع تطور عدن تحت الحكم البريطاني كان تعداد السكان اليهود قد ارتفع باطراد إلى 2000 نسمة عام 1872 وإلى 3700 عام 1916 ومعظم اليهود الذين انتقلوا إلى عدن خلال تلك الفترة جاءوا من المخا وهو ميناء في اليمن. ومع الاحتلال البريطاني انتقلوا إلى الساحل الجنوبي محافظين على تجارتهم. وآخرون جاءوا من الهند ومن الشرق الأوسط. ومع بداية القرن العشرين، صارت كثير من الحرف اليدوية ليهود عدن بالية وعتيقة، فقد هجرت تلك الأعمال واستبدلت بها أعمال تجارية صغيرة وحديثة.مجتمع كريتر (الحي الأقدم بعدن)في مطلع القرن العشرين، تركزت إقامة اليهود في أقدم جزء من المدينة، وفي منطقة تعرف بكريتر، الواقعة في نطاق بركان هامد، وتطل على خليج عدن.وقد حفر البريطانيون نفقاً عبر الجبل رابطين كريتر بالمركز التجاري حول ميناء التواهي، حيث كان يعمل كثير من اليهود في حي يهودي مكون من أربعة شوارع رئيسية مرقمة ومسماة بنفس الأرقام المعطاة لها من 1 الى 4، إن الجماعة اليهودية كانت مرؤوسة برئيس يسمى «ناسي» وهذا لم يكن وضعاً مخيراً، بل مفروضاً من قبل أعضاء أسرة موسى الثرية ذات النفوذ، المؤثرة بشكل كبير في الجماعة، وكانوا معروفين باسم عبري، ربما «رؤساء الشرق» وكان على هذا الرئيس مثلاً أن يمثل جماعته أمام السلطات البريطانية، وأن يساهم في الإنفاق المالي للعناية بالجماعة، كما أن على هذا الرئيس أن يوفر التعليم والسكن للذين هم من دون سكن، والطعام للفقراء، وإعانة الجمعيات أو المنظمات الخيرية، والمعابد والأهم من ذلك بيت دين.وأما عائلة موسى هذه فقد كانت مسؤولة عن تأسيس واستقرار وتسيير معبد عدن الكبير والمدارس اليهودية والمستشفى.كما أنه وجد – ولوقت قصير – في خلال الأربعينيات والخمسينات مجلس أنشئ ليمثل مصالح المجتمع اليهودي، أو الجالية اليهودية في باقي المجتمع الواسع، وكان هذا المجلس يتكون من أولئك الذين يملكون الشخصية القوية، والخلفية الدراسية والثقافية التي تمكنهم من تمثيل مجتمعهم الخاص بشكل أفضل.
عشنا فـي عدن حياة رغدة رائعة وممتعة..!يقول أحد يهود عدن في ذكرياته عن عدن: «لقد كانت المدينة عالماً مختلفاً، عالماً خاصاً بهذا القرن الأخير (العشرين) ولكن في الجانب الآخر عاش الناس حياة رغدة طيبة؛ بالرغم من أن بعض الناس كانوا فقراء جداً، إلا أنهم عاشوا في راحة، الطعام كان دائماً متوفراً ورخيصاً، الطقس كان جميلاً، لقد كانت حياتنا رائعة ممتعة ومدهشة، ونحن لا زلنا نتذكر عدن، نظراً للحياة الطيبة التي عشناها هناك». ويسترجع مقيم يهودي سابق في عدن ذاكرته قائلاً: «لم يكن شيئاً غالياً في عدن بما في ذلك السيارات. لقد كانت حياة ميسرة سهلة؛ لأنها كانت منطقة حرة خالية من الضرائب، وكانت مركزاً كبيراً للسياح. وكان الركاب ينزلون من السفن إلى التواهي لشراء الأشياء – غالباً من محلات اليهود – وعندما كانت أية سفينة ركاب ترسو فإن أصحاب المحلات يفتحون محلاتهم بغض النظر عن الوقت ليلاً أو نهارا».
الدينيقول أحدهم واصفاً الحياة الدينية اليهودية في عدن: «لقد كان مجتمعاً أكثر تقارباً ومودة، كان مجتمعاً دينياً حقيقياً، كنا نحاول أن لا نعمل شيئاً ملفتاً بارزاً يشعر به الجيران، لكي لا يبدأوا بالتحدث عنا على أننا نبدو مختلفين عنهم. كان عليك أن لا تبدو شاذاً مختلفاً عنهم، كنا نحس بالخجل والاستحياء أن نظهر مختلفين عنهم. كنا مجتمعاً غير حر إلى حد ما. إلا أننا كنا مترابطين فيما بيننا، إذا مات أحد منا اهتز لأجله الجميع».كان الدين هو المبدأ الرئيسي لوجود الجماعة اليهودية في عدن، وقد شكل هذا المبدأ الرابط صورة اليوم والعام ودورة الحياة. وقد عاش الجميع في طقوسهم وشعائرهم الدينية بالكامل.«بيت دين» كان يشكل أقوى هيئة في المجتمع، فيه كان «الشاخط» أي الذباح الديني اليهودي يذبح البهائم لتأمين أن أكلها مباح حسب الطريقة والشريعة اليهودية، أما الدراسة الدينية فكانت جزءً مهماً كاملاً من حياة كل طفل.كان يوجد ستة عشر إلى عشرة معابد في عدن، أما المعبد الرئيس اسمه «ماجن أبراهام» كان من أروع المعابد في العالم وأفخمها، كان يستوعب ألفاً من الناس، وأما مكتبته الدينية التي لها زاوية في المعبد وتسمى عادة (تابوت العهد الذي يحوي شريعة موسى) فتحتوي على 270 من أسفار التوراة، وقد بني هذا المعبد وفق تصميم لمعبد آخر كنموذج أصغر منه في الهند، وكان بناؤه حول بقايا معبد آخر سابق يعود تاريخه إلى عام 1856م.لقد كان المعبد هو النقطة البؤرية، أي نقطة الارتكاز في مجتمع الجالية اليهودية، فبينما كان على كثير من الرجال الذهاب للصلاة والعبادة يومياً، فإن الجميع كانوا يذهبون إلى المعبد يوم السبت.يقول أحدهم: «يوم السبت لم تكن لترى سيارة تمر في واحد من شوارعنا الأربعة، فقد كنا نذهب فيه إلى المعبد في الصباح، كنا نبدأ في حوالي الساعة السادسة صباحاً وننتهي في حوالى التاسعة أو التاسعة والنصف».خمسة وتسعون بالمئة من يهود عدن كانوا يذهبون إلى المعبد يوم السبت، ومن المستحيل أنه كان يمكنك أن تجد محلاً تجارياً واحداً لليهود مفتوحاً سواء كان في الحي اليهودي أو في جزء آخر من المدينة عدن أو في التواهي.كان يوم السبت يراعي بصرامة ودقة، ويتم الاحتفاء به، في الصباح ويقول أحدهم «كنا نذهب إلى المعبد، ثم بعد ذلك نذهب إلى شاطئ البحر، كنا نأخذ بعض الطعام معنا، ونستمتع بوقتنا حتى وقت متأخر من الليل، ثم نذهب لتناول العشاء في مطعم ذي خدمة ليلية».وفي عام 1921م زار أمير ويلز (الذي أصبح فيما بعد الملك أدوارد الثامن) عدن وطلب أن يرى رئيس الجمع اليهودي بنين ميسا، ولكن رئيس الجمع كان مشغولاً باحتفال يوم السبت، فلم يتمكن من الانتقال خمسة أميال من منزله إلى الميناء لهذا جاء الأمير بنفسه لمقابلته خارج المدرسة اليهودية.
هدايا العرب الى اليهود فـي الأعياد والمناسباتوفي صدد الاعياد الدينية والمناسبات التي لدى اليهود يقول أحدهم: «أما العرب فإنهم لما كانوا يعرفون بحلول مناسبة «البيساخ» فإنهم يجلبون لنا كل شيء كهدايا، وبمجرد علم العرب بحلول «عيد السكوت» كانوا يقدمون لنا ما نسميه بالعبرية «الأتراج» و«اللولافيم» وكل شيء».ويضيف آخر: «وأما خلال احتفالات (خجيم) في عدن فإنك إذا مشيت في الليل في الشارع اليهودي، سوف لن تسمع إلا الغناء الغناء في كل بيت..».
الموسيقى والغناءكانت الموسيقى جزءاً كاملا مهما في حياة اليهود في عدن. فالإبداع الفني والأناشيد والأغاني واكبت كل مناسبة دينية واحتفال. وانقسمت إلى نوعين:- الأناشيد الدينية أو الابتهالات المتصلة بالصلاة والعبادات.- والأغاني التي اختصت بها النساء فقط في الجلسات النسائية الخاصة. هنا تقول إحداهن: «إنني أحب تقاليدنا في الغناء؛ لأن جدي وجدتي في الأسرة كانا مغنيين معروفين في عدن، وكذلك كان والدي. ونوع الأغاني التي كانوا يغنونها كنا نرددها في كل مناسبة؛ كيوم السبت، وحفلات الأعراس. لقد تعودنا على هذا اللون من الموسيقى والغناء، ونشأنا معه».
الشاعر اليهودي اليمني شالوم الشبزيأما الأناشيد الدينية، فهي من كلمات شالوم الشبزي، وهو شخصية يهودية مقدسة عند اليهود من القرن السابع عشر، وقد ولد في شبز باليمن، وقد كان الشبزي بمثابة (صدّيق) (Tzaddick) – بتشديد الدال – أي ولياً صالحاً عند اليهود اليمنيين.وفي الجزء الأول من القرن العشرين، كان يهود عدن يقضون أسابيع في السفر وهم يحجون إلى ضريحه. كان شاعراً بارزاً متفوقاً ومشهوراً، يمزج في كتابته الشعرية بين العربية والعبرية، وكذا تناول يهود اليمن وعدن قصائده وقاموا بتلحينها وأدائها، و سرعان ما انتشرت قصائده وكان لها رواج شعبي واسع، وصارت جزءا متميزاً من التراث اليهودي في عدن وباقي اليمن.
أحداث 1947م (من بدأ بالاعتداء؟)بينما نجد في أغلب الأحوال أن يهود وعرب عدن قد تعايشوا بسلام، فإن توترات سياسية عرضية كانت تحدث، والبارز منها في عامي 1920م و 1931م، ومع ذلك فإن أحداث الشغب تجاه اليهود، التي نشبت في 1947م كانت لا سابقة لها ولا مثيل من حيث الحدة والنطاق.يروي أحد يهود عدن رواية مهمة حول هذا الحدث فيقول: «في الليلة الأولى لم يحدث شيء، جميع السكان اليهود كانوا بخير والكل في أمان. في اليوم الثاني شاهدنا شاحنات مليئة بجنود عرب يسمونهم الـApl (جنود الليوي) وكانوا جنوداً مدربين تدريباً ممتازاً، وهكذا جاؤوا بأسلحتهم، وفرحنا أن الحكومة قد جاءت بهم لحمايتنا، ولن يحدث مكروه، وفي المساء سمعنا إطلاق النار بشكل متواصل قربنا، واستمر إطلاق النار حتى ظننا أن الجنود العرب – وكان ضباطهم إنكليزي – ظننا أنهم يطلقون النار على العرب الذي كانوا يحاولون مهاجمتنا، ولكن الجنود أنفسهم كانوا يطلقون النار علينا، أما الذي لم نكن نتوقعه فقد حدث، وهو أن الضباط الإنكليز كانوا إلى جانب الجنود في ذلك، ودهشنا كيف يفعلوا ذلك لقتلنا، وهم إنما جاءوا لحمايتنا..»!أمنية العودة إلى عدنوأخيرا هذه أقوال بعض ممن يحنون إلى عدن، ويتذكرون جمالها وطيبة أهلها، والعيش فيها، ويتمنون لو عادوا إليها، وهم يعيشون في لندن منذ مغادرتهم عدن: «يهود عدن، حسناً أنهم يتوسعون الآن أكثر وأكثر، اعتقد أنه سيكون مستقبل باهر في لندن، أنهم اليوم مستقرون، معتمدون على أنفسهم، وموحدون، وهم ليسوا من أولئك المغرورين الذي يفردون ريش أجنحتهم. ولا تزال لهم عاداتهم المحافظين عليها، حتى أطفالي الذين ولدوا في إنكلترا يتمتعون بالآداب والتهذيب والحياء والخجل تماماً كما كنا في عدن، إنك لا يمكن أن تجد يهودياً عدوانياً هنا، فمعظمهم يكنون احتراماً عظيماً للآخرين».وختاما هذا قول وشهادة ممزوجة بالتاريخ والعاطفة والصدق والمعاناة لمفارقة عدن حيث يقول شاهد:«إذا كنت استطيع العودة، سأفعل بكل ممنونية وطيب خاطر، إنني أتذكر الأشياء الجميلة فقط في عدن، طفولتي وأيام الدراسة وكل شيء».«في الكتاب المقدس عندما خرج اليهود من مصر وعاشوا في البرية، كانوا دائماً يحنون إلى مصر، وذلك بالرغم من أنهم كانوا عبيدا هناك، فقد كانت لهم اللقمة الهنيئة، والطعام الجيد الذي تعودوا عليه، وينطبق هذا الشيء نفسه على عدن معنا نحن العدنيون اليهود، نحن دائماً نتذكر بأن عدن هي أجمل أيام حياتنا، وكل منا يتذكر عدن، عاشها أو ولد فيها، فسيظل يقول دائماً، لا يوجد مكان في الدنيا مثل عدن…!».
Leave a Reply