بيروت – كمال ذبيان
فقد لبنان مع فجر العام الجديد أحد أبرز قادته السياسيين الرئيس عمر كرامي، وهو سليل عائلة سياسية، كان أبوه عبد الحميد كرامي مفتياً، ثمّ خاض غمار العمل الوطني، فقاوم الإنتداب الفرنسي وعمل لإستقلال لبنان، وبرز بين رجالاته، ليتبوّأ رئاسة الحكومة فـي مرحلة ما بعد الإستقلال، ليخلفه نجله البكر رشيد الذي شغل منصب رئيس الحكومة مرات عدة، واغتيل أثناء كونه وهو رئيساً للحكومة فـي طائرة عسكرية مروحية بتفجيرها بعبوة ناسفة زرعتها «القوات اللبنانية» تحت المقعد الذي كان يجلس عليه، وبأمر من رئيس القوات سمير جعجع فـي 1 حزيران 1987، وقد حوكم بهذه الجريمة وصدر بحقه حكم قضائي قضى بالإعدام وتخفـيف العقوبة الى الأشغال الشاقة المؤبدة، وخرج بقانون عفو صدر عن مجلس النواب فـي تموز 2005، وبعد ستة أشهر على اغتيال الرئيس رفـيق الحريري، حيث اعتبر سعد الحريري الإفراج عن جعجع إنتصاراً سياسياً، دون أن ينظر الى أنه قاتل رئيس حكومة عريق، فعفا عنه غير آبه للجرح الذي سيتركه لدى آل كرامي، وهم لم يسامحوا جعجع ولن ينسوا له جريمته.
جاء الرئيس عمر كرامي الثالث فـي عائلته ليرث العمل الوطني والسياسي، فـيحل محل شقيقه الشهيد رشيد فـي المقعد النيابي، ثمّ يعيّن وزيراً للتربية فـي أول حكومة بعد إتفاق الطائف يترأسها الرئيس سليم الحص فـي نهاية العام 1989، ليخلفه فـي رئاسة الحكومة فـي نهاية كانون الأول 1990، ويخرجه النظام السوري منها فـي 6 ايار 1992، بعد أن تمّ تدبير مؤامرة عليه كما كان يقول هو، من خلال رفع سعر الدولار مقابل سعر الليرة اللبنانية، التي فقدت قيمتها الشرائية، وتدنّت الأجور والرواتب، حيث أتّهم الرئيس رفـيق الحريري بالتلاعب بالدولار مع عدد من المصارف ورموز سياسية، وأركان فـي النظام السوري كانوا مكلفـين بالملف اللبناني وإدارته ورعاية تطبيق إتفاق الطائف الذي حظي بتأييد دولي وإقليمي وعربي، وأعطيت سوريا تفويضاً بإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، واستعادة وحدة المؤسسات الدستورية، وإزالة المتاريس والحواجز التي رُفعت بين اللبنانيين وقسمتهم ووزعتهم على «كانتونات» طائفـية ومناطقية.
تبوّأ الرئيس كرامي مهام رئاسة الحكومة التي جمعت قادة الميليشيات وأمراء الحرب ومن أبرزهم: إيلي حبيقة، أسعد حردان، سليمان فرنجية، جورج سعادة، سمير جعجع الذي وافق كرامي على توزيره قبل صدور الحكم القضائي بحقه وكان سبقهم للإنضمام الى حكومة الحص كل من نبيه برّي ووليد جنبلاط، وقد سميت حكومة كرامي بحكومة الوحدة الوطنية التي ضمّت كل الأطراف باستثناء العماد ميشال عون الذي رفض إتفاق الطائف، وتمرّد على الحل الدولي – العربي للأزمة اللبنانية، ورفض تسليم قصر بعبدا الى رئيس الجمهورية الجديد رينيه معوّض الذي اغتيل يوم عيد الإستقلال عام 1989، ليخلفه الرئيس إلياس الهراوي الذي وافق بين مَن عُرضت عليهم رئاسة الجمهورية وأبرزهم بيار حلو، بأنه مستعد لقرار يتخذ بإجتثاث عون من القصر الجمهوري وإنهاء تمرده، وعودة الشرعية الى بيتها، وهكذا كان، فحصلت عملية عسكرية فـي 13 تشرين الأول 1990 ضد الوحدات العسكرية من الجيش التي كانت مازالت ملتحقة بعون الذي خرج من قصر بعبدا الى السفارة الفرنسية فـي الحازمية ومنها أعلن استسلام قواته لقائد الجيش الجديد العماد إميل لحود، لينفى عون الى فرنسا ويمارس منها نضالاً سياسياً ضد النظام السياسي الذي أنتجه الطائف وحظي برعاية سورية.
فـي أثناء توليه للحكومة كان على كرامي تطبيق بنود إتفاق الطائف، بحلّ الميليشيات وتسليم سلاحها واستيعاب عناصر منها فـي الجيش، والتحضير لإنتخابات نيابية، وتحقيق الإصلاحات السياسية التي وردت فـي الإتفاق ومنها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفـية، واللامركزية الإدارية، والإنماء المتوازن، وبدء إنسحاب القوات السورية الى البقاع.
نفّذت الحكومة الكرامية الأولى بند حل الميليشيات واستوعبت عناصر منها فـي الجيش، ووقعت على معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا وأنشأت المجلس الأعلى اللبناني – السوري الذي عُيّن نصري خوري أميناً عاماً له، وكان كل شيء يحصل بشكل طبيعي، إلى أن بدأ سعر الليرة يتدهور، وقد بدأ الرئيس كرامي يلمس أن ثمّة مَن يدبّر له مكيدة لإسقاطه من الحكومة، واشتمّ أن نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام الذي كان مع حكمت الشهابي رئيس الأركان فـي الجيش السوري وغازي كنعان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع فـي القوات السورية فـي لبنان، يستعجل مجيء رفـيق الحريري الى رئاسة الحكومة وحجته أنه يمكنه ضبط الوضع المالي والاقتصادي المتدهور، وإعادة إعمار ما تهدّم بعد أن تمّ تمرير صفقة شركة «سوليدير» التابعة للحريري وأوكل إليها إعمار وسط بيروت.
وبدأ الضغط على كرامي سياسياً من خلال الرئيس إلياس الهراوي الذي كان يريد الحريري لرئاسة الحكومة، يشجعه على ذلك رئيس المخابرات السابق فـي الجيش اللبناني العقيد جوني عبده الذي كان سفـيراً للبنان ورشحه الحريري لرئاسة الجمهورية فـي العام 1988 ليخلف أمين الجميّل، وهكذا بدأت طبخة الإعداد لتسلم الحريري لرئاسة الحكومة بعد «فـيتو» سوري عليه مرتين، الى أن قرّر الفريق السوري برئاسة خدّام، أن يتحرّك الشارع ضد كرامي لإسقاطه فـيه، ولم يكن أمامه سوى تازيم الوضع الاقتصادي – الإجتماعي، وقد نجحت الخطة، بعد أن كان خدّام أبلغ كرامي أن الهراوي هدّد بالإستقالة لأنه لا يستطيع تحمّل المطالب الشعبية والنقابية التي تطالب برفع الرواتب والاجور، فكان رد كرامي أنه هو يتّجه للإستقالة لأن المؤامرة عليه واضحة، ويكفـي أن لا يتدخل مصرف لبنان للجم تدهور سعر الليرة، ليتبيّن له أن قرار خروجه من رئاسة الحكومة قد اتّخذ لمن يمهّد لمجيء الحريري، وإجراء إنتخابات تضمن له مجلس نواب يؤمن أصواتاً له لتسميته.
ونفّذ السيناريو المعد لإسقاط كرامي، فكان يوم 6 أيار 1992، حيث اشتعلت بيروت والمناطق بالدواليب، ومَن قام بذلك هم حلفاء سوريا التي خذلت مَن كان ينظر إليها نظرة المؤمن بالعروبة والتي تقف دائماً الى جانب العروبيين بوجه التقسيميين وأصحاب الشعارات الإنعزالية والطائفـية، وهو بهذا المعنى كان حليف سوريا من موقع إيمانه بالعروبة، ولم يكن رجل نظامها، ولا أي نظام عربي آخر، وهو ما وضعه فـي موقع الصدام فـي كثير من الأحيان مع مَن كان وكيلاً للنظام السوري، فـي لبنان ويديره وفق مصالحه الشخصية والفئوية فلم يقبل أن يُفرض عليه مرشحون فـي لوائحه الإنتخابية، كما ميّز نفسه عن مَن سموا أنفسهم حلفاء سوريا، بأنه كان حليفاً صادقاً مع نظامها وقيادتها، فـي حين أن بعضهم حالف مجموعة من داخل النظام وكانت لهم مصالح معها، فأخرج الرئيس كرامي من الحكومة، ليخلفه الرئيس رشيد الصلح فـي حكومة إنتقالية أشرفت على إنتخابات نيابية، بعدم التقيّد بما ورد فـي إتفاق الطائف، فتمّ رفع عدد النواب من 108 الى 128، كما جرى إعداد قانون إنتخاب فُصّل على قياس المصالح ومنها مصلحة النائب وليد جنبلاط الذي أبقي له الجبل أقضية لا محافظة كدائرة إنتخابية واحدة.
ومنذ العام 1992 تمّ إقصاء كرامي من السلطة، فاختار المعارضة مع سياسيين آخرين، كالرئيسين سليم الحص وحسين الحسيني لتصويب المسيرة السياسية التي تمّ الإنحراف عنها، وتطويب الحريري رئيساً للحكومة على مدى ست سنوات متتالية، وتمّ تضخيم حجمه السياسي والشعبي، ليقفل بيوتات سياسية كآل كرامي والصلح وسلام، إلا أن الرئيس عمر كرامي واجه كل الضغوط السياسية عليه، وصمد بوجه المال السياسي الذي أدخلوه مع السلطة وغنائمها الى الحياة السياسية ليبرز حيتان المال فـي عاصمة الشمال، وباتوا يحتلون واجهة العمل السياسي والمناصب الحكومية.
وخلال حوالي 15 سنة من محاولة عزل آل كرامي سياسياً، فإن المحاولة لم تنجح، وكان التمديد للرئيس إميل لحود الذي صادف فـي 2 أيلول 2004 مع صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559، ومهّد له إتفاق الرئيسين الأميركي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك، وكانا اختلفا على الحرب فـي العراق، ليعودا فـيتفقا على سوريا التي رفضت ما نقله إليها وزير الخارجية الأميركية آنذاك كولن باول فـي أيار 2003 وبعد أقل من شهر على الإحتلال الأميركي للعراق، حيث أبلغ الرئيس بشار الأسد، أن عليه أن ينفذ الشروط الأميركية بعدم مساعدة المقاومة فـي العراق ضد الوجود العسكري الأميركي، ووقف دعم المقاومة فـي لبنان، وطرد حركة «حماس» من سوريا، إلا أن الأسد رفض هذه الشروط وقرّر المواجهة، فاستغلّ أطراف لبنانيون الخلاف الأميركي – السوري، ليدخلوا عبره ومن خلال فرنسا برئاسة شيراك، لفرض انسحاب القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات والمقصود المقاومة، فكان القرار 1559 الذي وصفه الرئيس كرامي بالفتنة لكنه قرّر مواجهته لأنه يستهدف المقاومة، فقبل ترؤس حكومة، بعد أن امتنع الحريري من تأمين الغطاء السياسي للتمديد للحود وبضغط خارجي من أميركا وفرنسا، وداخلي من جنبلاط و«لقاء البريستول»، وهكذا تسلّم كرامي كرة النار بترؤس حكومة مواجهة الفتنة التي قرّر مَن يعمل لها وحضّر لها القرار 1559، أن يغتال الرئيس رفـيق الحريري، وهذا ما حصل، فما كان من كرامي إلا أن استقال بعد أسبوعين على الجريمة، لأنه أدرك أن ما قرأه هو فـي القرار الدولي سينفّذ، وأن قتل الحريري هو أداة ستستخدم لإخراج القوات السورية، ولإسقاط ما كان يسمى الوصاية السورية المتمثلة بالنظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، ليقوم نظام أمني جديد بوصاية أميركية، تكون جريمة الحريري مدخلاً لها، ليبدأ بعد ذلك سيناريو نزع سلاح المقاومة بالحوار أولاً أو بالعدوان الإسرائيلي فـي صيف 2006، أو بالفتنة المذهبية.
خرج كرامي من الحكم بعد تجربتين كانتا مريرتين عليه، لكنه لم يكن يهوى السلطة سوى لمصلحة وطنية، وفـي رئاسته للحكومة لمرتين وفـي ظرفـين خطيرين، أثبت أنه رجل دولة، وليس رجل سلطة، وأنه سياسي فـي مدرسة أخلاقية بدأت مع والده عبد الحميد وشقيقه رشيد، لجهة نظافة الكف والحفاظ على المال العام، وهو ما اشتهر به آل كرامي فلم يثروا على حساب الدولة، ولم يستغلوا نفوذهم فـي السلطة لمآرب خاصة، وسيسير الوريث الرابع فـيصل على هذا النهج السياسي الأخلاقي.
Leave a Reply