شعر: كمال العبدلي
على رقعةٍ من مساحة ذلك البيتِ المتواضع
تُحيطني رفوفُ الكتُبِ المُنتَقاة
كإحاطةِ الطيورِ لِنافورةِ ماء
ينبعث منها عبقُ التأريخ
تعُجُّ بكلِّ غبارِها وسنابِكِ خيلِها
ساحاتُ المعارك
ثمّ تنتظمُ منها لامعةً
جواهرُ الكلمات
وينتصبُ ديوانُ العرب
سرادقَ للسامرينَ حتّى ضياءِ الفجر
عائداً من مقاعدِ الدراسةِ في الجامعة
وكانت قد اخضرّت لحيتي توّاً
لأخرجَ على امتدادِ الشارعِ المُظَلَّلِ
بسعفِ النخيل
وأغصانِ أشجارِ البرتقال
تُضمِّخُ الأرجاءَ رائحةُ القدّاح
مَزهوّاً تحت طوق المحلّةِ الأليفة
وتحايا المارّة
تتلامعُ وجوهُ الآسراتِ السُمرُ والبيض
خلف سوادِ العباءاتِ المُلتفَّةِ
حول قاماتِهنّ الهيفاوات
فالخطوةُ تناغي الخطوة
إلى ضفافِ دجلةَ النابضِ في قلبِ بغداد
كانت جدّتي قد عادت توّاً
من زيارة القدسِ تعلو وجهَها
بشائرُ انشراح
تُردِّدُ أنّ القدسَ مسرى النبيّ
فهي عربيّة
وكان صوتُ المذياعِ الرصين يصحبني
تنطلقُ منه الأغاريدُ اللحنية: (للقدسِ سلامٌ)
لم أجدني فرداً
لحظةَ اكتشفتُ أنّ الضميرَ الجمعيَّ
قد تلبّسَني
كان صوتُ جدّتي يعني
أنَّ القدسَ مِظلّةٌ لِما بين المحيط الأطلسي
إلى الخليجِ العربي
وأنّي المُذابُ في طولِ وعرضِ
هذه الأوطانِ المقدَّسة
بينَ أناسٍ يشبهونني في الكلامِ والسُحنة
وحُبِّ الخير للبشريّة
والتوثّبِ على رفضِ الضيم
***
ولأنّ عروبةَ القدسِ مثل الحقيقةِ
عصيّة على التغيير بالقوّة
فعنقُ غاليليو كادَ أن يُكسَر
لولا أنّ الطيّارينَ يعرفون
مسارَ طائراتِهم
على الخطّ المُقوَّسِ دونَ المستقيم
***
لا يقتصر المطرُ على الماء
ذلك ما يؤكدهُ مطرُ الأصوات
إنّ ملياراً وثمنمئة مليون صوت
تردّد على سطحِ كوكبِ الأرض
وتهتفُ أنَّ القدسَ عربيّة
***
وعلى حينِ غرّة يوماً ما
جاءنا النداءُ من صوبِ أحفادِ (العم سام):
تعالوا.. معاً نُعبِّدُ للسلامِ طريقاً
صِحنا: ياربَّ الخيرِ الهاطل
نفضنا من أيدينا صناعةَ الأمل
وتركنا صُررَنا وراءنا
رحنا نرقب على ضفافِ الزمن
طلوعَ شمسِهِ
حتّى إذا قضمت السنواتُ نصفَ أعمارِنا
أعلنوا أنّ القدسَ ليست للعرب!!
كما لو كانوا يقولون:
إنّ وجهيَ هو غيرُ وجهي
أهكذا صناعةُ السلام؟
أهكذا التعامي عن الحقيقةِ تحت عباءةِ التزوير؟
أوَهكذا يتمخّض الجبلُ عن ولادةِ فأر؟
***
كلُّ ذرّةٍ من ترابِ القدسِ عربيّة
كلُّ نسمةٍ من هواءِ القدسِ عربيّة
كلُّ ورقةٍ من أشجارِ القدسِ عربيّة
والقدسُ مكتوبةٌ في اللوحِ المحفوظِ ..عربيّة
هل تقصّيتمُ اللّوحَ المحفوظ؟
فإذا فاتكم ذلك
فمِن أين لأسلافِكم هذه الدساتيرُ الحديثة؟
ومَن يُدلي بغيرِ ذلك
فهوَ كمَن يهذي بأنّ مدريدَ منغوليّة
أو باريسَ تركيّة
أو لندنَ هنديّة!
Leave a Reply