قمة ترامب–بوتين: فرص التوافق الممكنة تثير قلق كثيرين!
كل الطرق تنطلق من هلسكني، القمة الرسمية الأولى بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية في السادس عشر من تموز (يوليو) الجاري.
فالجميع يدرك بأن هذا اللقاء المرتقب قد يحدّد قواعد اللعبة في الكثير من الملفات، بدءاً بالعلاقات الثنائية المضطربة بفعل الإجراءات الأميركية الأحادية المرتبطة باتفاقيات الحد من التسلّح، والاتهامات المساقة بحقّ روسيا بشأن التدخل في الانتخابات الاميركية، وصولاً إلى الملفات الدولية الأكثر خطورة وفي مقدمتها الأزمة السورية والصراع على أوكرانيا.
حتى الآن، لا أحد في العالم بما في ذلك كبرى الدوائر السياسية والأمنية من إسرائيل وإيران وصولاً إلى باريس ولندن، يبدو قادراً على التنبؤ بأي قدر من الدقة حول ما ستنتهي إليه القمة التي ستجمع رجلين من طباع مختلفة، أحدهما ينتهج عفوية تفاوضية، تتهم بالعشوائية والتناقض، وهي التي قادته إلى سنغافورة لعقد أوّل لقاء تاريخي بين رئيس أميركي وزعيم كوري شمالي، والثاني (بوتين) الذي يتميّز بأسلوب تفاوضي غامض، اكتسبه بفعل سنوات الترقي على السلم السياسي من ضابط في جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق «كي جي بي» إلى كرسي الرئاسة في الكرملين.
قبلة سياسية
لقد باتت روسيا قبلة كل المسؤولين المعنيين بالملفات الإقليمية الدولية، والساعين إلى فك الشيفرات المعقّدة لقمة هلسنكي، وهو ما جعل التزاحم على حضور «حدث رياضي» –المونديال– فرصةً مؤاتية يمكن اقتناصها لملاقاة فلاديمير بوتين، كما فعل أمير قطر تميم بن حمد ومحمد بن سلمان، ثم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في حين فضّلت إيران التواصل المباشر، من خلال إيفاد علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى السيد علي خامنئي للقاء كبار المسؤولين الروس وعلى رأسهم بوتين نفسه، ليعلن ولايتي من موسكو أن لقاء قريباً سيجمع بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني. حتى واشنطن نفسها، بعثت وفداً من الكونغرس إلى العاصمة الروسية، في مهمة تبدو أقرب إلى الطابع «الاستطلاعي».
ولعلّ ما جعل روسيا قبلة الجميع –برغم الإدراك الكامل بصعوبة الرصد حين يتعلق الأمر برجل مثل فلاديمير بوتين– أن الإشارات التي صدرت قبل أيام قليلة من القمة لم تكن مطمئنة بالنسبة إلى كثيرين، خصوصاً أولئك الذين يقتاتون على فتات الخلافات الأميركية–الروسية التي بلغت مستوى شديداً من التوتر منذ الاندفاعة الروسية غير المسبوقة لعصر الاتحاد السوفياتي.
قلق
المثير في الأمر، أن القلق الأكبر من نتائج القمة البوتنينية–الترامبية أصاب حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين، سواء تعلّق الأمر بأوروبا التي نزلت عليها التصريحات النارية لدونالد ترامب بشأن الإنفاق الدفاعي كالصاعقة، بعدما طالبها بتسديد فواتير «الحماية» العسكرية والأمنية، أو بإسرائيل التي تعيش اليوم أشد أوقات الخيبة والقلق في آن واحد، بعد التطوّرات الأخيرة في الجنوب السوري، وهو ما ينسحب بطبيعة الحال على كل من قطر والسعودية اللتين تشاهدان عاجزتين تهاوي مشروعهما المتناقض والمتناغم معاً لإسقاط الدولة السورية.
لعلّ تصريحات الرئيس الأميركي بشأن العلاقة مع نظيره الروسي نفسها تحوّلت إلى موضع قلق على ما قد تعنيه التفاهمات المحتملة من انهيار لأحلام إقليمية ودولية، وأبرزها ما أجاب به ترامب رداً على سؤال حول القمة المرتقبة بالقول إنّ ليس بوسعه أن يطلق على الرئيس الروسي صفة صديق أو عدو، لكنه وصفه بالمنافس، وهي عبارة تعني الكثير حين يتعلق الأمر بالعلاقات الروسية – الأميركية، وقد تقود بالرجلين في نهاية المطاف إلى تبني التعبير الأشهر في الأدبيات الروسية وهو «الشريك».
الأهم من التصريح السابق، ما ردده ترامب حين قارن بين القمة التي سيعقدها مع بوتين بتلك التي عقدها مع الحلفاء «الأطلسيين» في بروكسل قائلاً: «بصراحة، قد يكون بوتين الأسهل بينهم جميعاً… من كان ليظن ذلك؟».
دبلوماسية صادمة
هذه التصريحات كانت صادمة للأوروبيين، الذين أخذوا يتلمسون أكثر فأكثر فصلاً جديداً من «الدبلوماسية الصادمة» لدونالد ترامب، حتى أن بعضهم أصبح ينظر إليه باعتبار أن سيّد البيت الأبيض بات على قناعة بأن «أسوأ أعداء» أميركا هم أحياناً «أصدقاؤها المزعومون».
ولا شك في أن أجواء قمة مجموعة السبع في سنغافورة ما زالت حاضرة في اذهان «الحلفاء»، فخلال بضعة ايام فقط، شكك ترامب بصدق رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، مقابل اعتباره أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون «موهوب جداً».
ويبدو أن الأوروبيين اصبحوا يتعاملون مع ترامب على أن عداءه للاتحاد الأوروبي بات مباشراً ومعلناً من دون أي إحراج، وهو ما كشفه الرئيس الأميركي نفسه مؤخراً حين قال إن الاتحاد الاوروبي «أنشىء بالتأكيد للافادة من الولايات المتحدة» في ما اعتبره محللون أوروبيون وأميركيون، بأنه «انقلاب على كل الوقائع التاريخية» التي تحكم العلاقات بين ضفتي الأطلسي.
هذا التناقض المتجدّد في معظم الملفات تقريباً، وأهمها الخلاف الأوروبي–الأميركي بشأن خطوة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، والتي يرى فيها المحللون محاولة لتقويض الاقتصاد الأوروبي، بات يشمل واحداً من أهم الملفات التي كانت موضع توافق تام بين الولايات المتحدة وحلفائها، وهو الملف الأوكراني، حيث أعلن الكرملين أن بوتين وترامب يمكن أن يناقشا كل المواضيع، باستثناء موضوع القرم، شبه الجزيرة التي سلختها روسيا عن أوكرانيا عام 2014، وهو ما تلاقى مع تصريح غامض من ترامب حين أجاب على سؤال حول ما إذا كان يفكر بالتخلي عن معارضة الولايات المتحدة ضم شبه الجزيرة بالقول: «علينا أن ننتظر لنرى».
ملفات
برغم كل المؤشرات الإيجابية والغموض المثير للحيرة في آن، إلا أن ثمة فكرة معقولة يمكن استخلاصها من الإطار العام الذي ستدور حوله المحادثات في القمة بين بوتين وترامب، لاسيما في الملفات التي استعد لها الرجلان، والمجالات التي يريد كل منهما شيئاً فيها من الآخر، وتلك التي لدى كل منهما الاستعداد لتقديم تنازلات فيها.
أول تلك الملفات، سباق التسلح، حيث تشدّد كل من ترامب وبوتين في تصريحاتهما عن الترسانة النووية في البلدين الأمر الذي فتح الباب أمام إمكانية حدوث سباق تسلح جديد. وكان ترامب حاسماً في هذا الإطار، حين قال إن القدرات النووية الأميركية حاجة إلى التجديد، وهو ما تنظر إليه روسيا باعتباره خطة عدوانية، وهو أيضاً ما رد عليه بوتين في آذار الماضي حين كشف عن مجموعة من الأسلحة النووية الجديدة وحذر الحكومات الغربية من أنها «تحتاج الآن إلى أن تأخذ واقعاً جديداً في اعتبارها».
مع ذلك، فإن ثمة قناعة راسخة لدى الطرفين الروسي والأميركي بأن سباق التسلح خطير وباهظ الثمن، أخذاً في الاعتبار تجربة الحرب الباردة، وهو ما يجعل الباب موارباً أمام اتفاق في هذا الشأن، بما يجعل بوتين وترامب يخرجان فائزين باتفاق من هذا القبيل، يمكن البناء عليه لتمديد معاهدة «ستارت» للحد من الأسلحة النووية والتي ينتهي العمل بها في 2021.
العقوبات
إن ثمة رهاناً روسياً على توافق يفضي إلى تخفيف العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية عليها بسبب ضم شبه جزيرة القرم، والدعم الروسي للانفصاليين في شرق أوكرانيا (لوغانسك ودونيتسك)، ودورها في سوريا، فضلاً عن الاتهامات بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وبالرغم من أن قانوناً أميركياً صدر في العام 2017، يمنع ترامب من تخفيف الكثير من العقوبات من دون موافقة الكونغرس، فإن الرئيس الأميركي بإمكانه تخفيف بعضها وفق صلاحياته الرئاسية، في ما سيعد إشارة طيّبة إلى الجانب الروسي بأن الإدارة الاميركية لا تعتزم توسيع قائمة الكيانات والأفراد الروس الخاضعين لقيود السفر والقيود الاقتصادية، ما من شأنه أن يسمح بفك تجميد استثمارات عديدة تبدو روسيا بحاجة شديدة لها وقروض من مستثمرين دوليين يرفضون في الوقت الحالي الارتباط بها خوفاً من تأثير العقوبات.
وبطبيعة الحال، فإنّ خطوات من هذا القبيل قد تمهّد لانفراجات دبلوماسية، بعد الإجراءات المتبادلة التي اتخذتها روسيا والولايات المتحدة بطرد الدبلوماسيين بسبب خلافات عدّة، منها سوريا والتدخل المزعوم في الانتخابات الرئاسية، وقضية تسميم الجاسوس الروسي المنشق سيرغي سكريبال، ومن الممكن أن يتفق بوتين وترامب في هلسنكي على إعادة حجم البعثتين الدبلوماسيتين إلى ما كان عليه من قبل. مع أنّ ذلك لن يغير شيئاً في جوهر العلاقات الأميركية الروسية لكنه قد يمثل رمزاً لبداية جديدة.
لا شك في أن تغييراً جوهرياً من هذا القبيل يتطلب خطوات أكثر عمقاً لبناء الثقة المفقودة، ولا سيما في الفناء الخلفي لروسيا، حيث يصعّد «الأطلسيون» تحرّكاتهم العسكرية سواء في البلطيق أو أوكرانيا، وهو ما جعل الكرملين يشبّه هذه التحرّكات بالنسبة إلى روسيا أشبه بـ«نشر صواريخ في المكسيك» بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وفي حال تم التوافق على خطوات ولو محدودة لطمأنة روسيا، فإنّ ذلك سيمثّل انتصاراً كبيراً لبوتين، وهو أمر ممكن بحسب ما تشي به تصريحات الدبلوماسيين من الجانبين، الذين يتحدثون عن خطوات إيجابية في هذا الإطار، بما في ذلك إعلان من ترامب بـ«تجميد» المناورات العسكرية الأميركية أو سحب القوات الأميركية من البلطيق، أو ربما «تعليق» برنامج المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا، في مقابل تنازلات من الجانب الروسي بوقف دعم انفصاليي دونتسك ولوغانسك في الشرق الأوكراني.
ماذا عن سوريا؟
يبقى الملف السوري أكثر الملفات تعقيداً وغموضاً في القمة، خصوصاً بعدما دخل الصراع الدائر في سوريا مراحله الأخيرة مع التقدم الواسع للجيش السوري في جنوب البلاد وتحريره كامل مدينة درعا بعد استعادته كامل الحدود مع الأردن.
وفي هذا الإطار، يدخل العامل الإسرائيلي الذي أخذ يعزف على وتر الوجود العسكري الإيراني في الجنوب السوري منذ المتغيرات الدراماتيكية التي شهدتها الأوضاع الميدانية على هذه الجبهة (تحرير حلب).
ومن المرجّح أن يطلب ترامب من بوتين استخدام نفوذه لدى إيران للحد من وجودها العسكري في سوريا، وهو أمر قد يكون صعباً على الرئيس الروسي، خصوصاً أنه قد يمثل مجازفة بالعلاقات الاستراتيجية القائمة بين روسيا وإيران.
ومع ذلك، فإنّ الأمر يبقى مرتبطاً بالقدرات التفاوضية لدى كلا الجانبين، إذ من الممكن التوصل إلى تسوية معيّنة تقضي بانسحاب تدريجي «لكل القوات الأجنبية»، وفق تعبيرات موسكو التي أعلنت الأربعاء عن حزمة استثمارات بحجم ٥٠ مليار دولار في إيران.
فهذه التسوية تتناسب مع حجم انخفاض المخاطر، من خلال تقدم العملية السياسية من جهة، ونجاح الدولة السورية في استعادة السيطرة على الأرض، وهو ما قد يؤدي، على سبيل المثال، إلى تفاهمات قصيرة وطويلة الأمد، تقوم على إمكانية انسحاب «حزب الله» و«الحرس الثوري» إلى مسافة 40 كيلومتراً من خط الهدنة في الجولان –وهو ما تطالب به إسرائيل حالياً– في مقابل انسحاب القوات الأميركية من قاعدة التنف عند مثلث الحدود السورية–العراقية–الأردنية، بما يمهّد لخطوات مماثلة في مناطق أخرى، لا تقل تعقيداً، كما هي الحال في شمال سوريا.
بصرف النظر عن كل التكهنات الممكنة، فإنّ الكلمة الأخيرة لا بد أن تنتظر خروج ترامب وبوتين من قاعة الاجتماع في هلسنكي، والتي فيها سيتحدّد كل شيء. وأياً تكن الاحتمالات، فإنّ الثابت الوحيد أن ما بعد القمة سيكون العالم مختلفاً عمّا قبلها.
معارضة في الكونغرس للانسحاب من سوريا
أكد عضو لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي ليندسي غراهام أن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا الذي قد يقدم عليه الرئيس دونالد ترامب، سيكون كارثة بالنسبة إلى حلفائها الكرد.
وقال السناتور الجمهوري إنه «ينبغي على الولايات المتحدة إبقاء حضور لها في سوريا لضمان عدم عودة داعش ولمواجهة النفوذ الروسي الإيراني»، وفق تعبيره.
وأضاف أن «على أصدقاء واشنطن الإسرائيليين توخي الحذر عند عقد اتفاقيات مع روسيا حول سوريا لأنها تترك تداعيات على مصالح أميركا».
وتابع «أنا لا أثق بروسيا في مهمة الإشراف على وجود إيران أو أي طرف آخر في سوريا».
ويعبر الكثيرون من قادة الكونغرس –الجمهوريين والديمقراطيين– انسحاب الجيش الأميركي من سوريا، لما سيكون لذلك من انعكاسات إقليمية تطال نفوذ واشنطن وحلفائها في المنطقة.
Leave a Reply