كمال ذبيان – «صدى الوطن»
تقدّم موضوع العمالة لإسرائيل، على مجمل الأحداث في لبنان خلال الأسبوع الماضي، مع اكتشاف عودة العميل الإسرائيلي عامر إلياس الفاخوري الذي كان ضابطاً في ميليشيات أنطوان لحد ومسؤولاً عن معتقل الخيام حيث ومارس القتل والتعذيب الجسدي والنفسي على المقاومين المعتقلين قبل تحريرهم مع اندحار الاحتلال الإسرائيلي عن جنوب لبنان عام 2000.
العمالة لإسرائيل
التعامل مع العدو الإسرائيلي، أو زرع الكيان الصهيوني لعملاء له في لبنان ودول عربية أخرى وحتى أجنبية، ليس بالخبر الجديد، فقد بدأ التغلغل الصهيوني في لبنان قبل قيام الدولة العبرية، بل حتى منذ ثلاثينيات وعشرينيات القرن الماضي، حيث تمّ اكتشاف العديد من العملاء، وتأسست جمعية «كل مواطن خفير»، في الخمسينيات، لتعقّب المتعاملين مع العدو، ومنع اختراقهم للبنان عبر سياسيين وأحزاب وشخصيات فكرية، كما في الاقتصاد والتجارة وحركة البضائع. وقد صدر العديد من القوانين اللبنانية التي تحظر قيام أي نوع من العلاقة بالعدو الإسرائيلي، مع عقوبات تصل إلى الإعدام.
إلا أن أخطر أنواع التعامل مع إسرائيل، تمثل في المروجين للاعتراف بدولة الاحتلال والتعامل معها كأمر واقع، ورفض الحرب ضدها أو مقاومتها، وتبني ثقافة في لبنان –كما في دول عربية أخرى– تدعو إلى «السلام» مع إسرائيل. وقد بشّر بها في لبنان أحزاب وسياسيون بشكل صريح أو موارب، كما في الشعار الذي روجه «حزب الكتائب»، بأن «قوة لبنان في ضعفه»، وكذلك في إعلان العميد ريمون إدّه، بأن «صداقات لبنان الدولية تحميه»، وأن الاستعانة بالقوات الدولية كفيلة بحماية لبنان.
إذ شكّلت ثقافة الاستسلام أمام العدو الإسرائيلي حالةً متقدمة في لبنان والعالم العربي، على حساب أنصار المقاومة والإعداد لحرب تحرير فلسطين بقوة الجيوش العربية التي سرعان ما أصيبت بنكبة 1948، فاستولى اليهود على أجزاء واسعة من فلسطين بتهجير غالبية أهلها، ثم في نكسة حرب حزيران 1967، وصولاً إلى محاولة الردع في حرب تشرين 1973، والتي انتهت إلى تحييد الجيوش العربية عن الصراع، ليبزغ نجم المقاومة الفلسطينية كسبيل وحيد لتحرير الأرض. فاصطدمت «منظمة التحرير» بالأنظمة العربية، إلى أن استسلمت في مؤتمر أوسلو، ولكن راية المقاومة لم تُنكس في لبنان، فانتفضت على شعارات الهزيمة والاستسلام وتمسكت بالسلاح حتى تمكّنت من تحرير لبنان، أولاً بطرد جيش الاحتلال من العاصمة بيروت في أيلول 1982، وصولاً إلى التحرير الشامل في 25 أيار 2000.
الشريط الحدودي
أول ظهور للتعامل العلني مع العدو الإسرائيلي في لبنان، كان في العام 1976، عندما فتحت إسرائيل «الجدار الطيب» أمام ميليشيات «الكتائب» و«الوطنيين الأحرار» للعبور إلى فلسطين المحتلة، من مرجعيون والقليعة وجوارهما عبر بوابة كفركلا والعديسة، وقاد هذه العملية الرائد سعد حداد الذي كان ضابطاً في الجيش اللبناني وأعطته «الجبهة اللبنانية» (تحالف اليمين المسيحي) الغطاء السياسي للتنسيق مع إسرائيل بمواجهة «القوات المشتركة» التابعة لـ«الحركة الوطنية» والفصائل الفلسطينية.
وقد نجح العدو الإسرائيلي بتجنيد عملاء له، من خلال ما سمي «جيش سعد حداد» (جيش لبنان الحر) الذي اتّخذ من ثكنة الجيش في مرجعيون مقراً له، دون أن تتّخذ قيادة الجيش في حينه أي قرار بحقّه، سواء بطرده من المؤسسة العسكرية أو وقف تمويله، وكان التبرير السياسي آنذاك أنه مضطر إلى «التعاون حتى مع الشيطان» لحماية الوجود المسيحي في القرى والبلدات الحدودية التي كانت تستخدمها فصائل المقاومة الفلسطينية للاشتباك مع جيش الاحتلال. وسرعان ما توسعت مظلة العمالة مع اجتياح إسرائيل للجنوب بهدف إخراج مقاتلي «القوات المشتركة» من جنوبي نهر الليطاني، وإقامة «منطقة آمنة» تبعد خطر صواريخ «الكاتيوشا» وتسلّل المقاومين عبر الحدود. فبدأ توسّع التعامل مع إسرائيل مع انضمام ميليشيات سعد حداد وعملاء آخرين من طوائف أخرى شيعية ودرزية وسنية إليها، تحت ذريعة العمل في فلسطين المحتلة وإقامة جسر حوار مع إسرائيل.
توسيع المناطق المحتلة
لم تنجح عملية «نهر الليطاني» في آذار 1978، في وقف عمليات المقاومة وصواريخها من استهداف إسرائيل، فكان قرار تل أبيب بتوسيع المناطق المحتلة بعمق 45 كلم، أي إلى حدود نهر الأولي قرب صيدا. وبناءً عليه، اتّفقت القيادة الصهيونية برئاسة مناحيم بيغن ووزير الدفاع أرييل شارون على توسيع «الشريط الحدودي» فكان غزو لبنان في الرابع من حزيران 1982 بقرار أميركي–عربي، بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات على «اتفاقية كامب دايفيد»، حيث كان لبنان البلد العربي الثاني على قائمة الأنظمة التي كان من المفترض أن توقّع سلاماً مع الاحتلال الإسرائيلي.
وكما هو معلوم، فقد نسقّت إسرائيل عملية اجتياح للبنان مع قائد ميليششيا «القوات اللبنانية» بشير الجميّل بهدف الوصول إلى الرئاسة، وهو ما كشفه الكثيرون ممن كانوا في «القوات»، كأسعد الشفتري (مسؤول الأمن)، وجورج فريحة في مذكراتهم، إضافة إلى جوزف أبو خليل وآخرين، إلى جانب مؤلفات صهيونية عديدة كشفت تآمر بشير على وطنه لبنان، بتسهيل دخول جيش الاحتلال إليه، والتنسيق معه، وهو ما وثقته عدة صور نشرت لبشير وشارون أثناء التخطيط للغزو ومتابعة العملية مع ضباط صهاينة. وبالفعل أسفر الاجتياح عن انتخاب الجميّل رئيساً للجمهورية تحت الاحتلال، لكن اغتياله من قبل حبيب الشرتوني أسقط أهداف الغزو ومعها أحلام الاستسلام، وهو ما أكّده الشرتوني أثناء استجوابه، في عهد أمين الجميّل، علماً بأن محاكمته لم تجر إلا العام الماضي، وقد حكم عليه غيابياً بالإعدام، مع رفيقه نبيل العلم، الذي خطط معه لعملية اغتيال بشير بتفجير «بيت الكتائب».
العميل الفاخوري
الفاخوري، أو «جزّار الخيام»، تشجّع وعاد إلى لبنان في زمن سياسي يُحاكم فيه المقاومون، ويكافأ فيه العملاء. إذ سهّلت السلطة السياسية الحاكمة، من خلال إلغاء بعض الإجراءات وإسقاط أحكام صادرة بحق عملاء لمرور الزمن، وهو ما فتح الطريق للفاخوري، بأن يتجرأ على العودة، متسلحاً بالدعوة إلى العفو العام عن «المبعدين» إلى فلسطين المحتلة، التي لجأوا إليها بعد التحرير عام 2000، وهم في غالبيتهم من عائلات العملاء، وقد بلغ عددهم حوالي خمسة آلاف نسمة، ومنهم مَن حمل الهوية الإسرائيلية كالعميل الفاخوري نفسه، الذي تنسب إليه جرائم عديدة ضد الإنسانية.
فالفاخوري كان يعاود نشاطه وكأنه لم يرتكب أي جرم أو خيانة، فحضر إلى السفارة اللبنانية في واشنطن كمواطن لبناني، وهو عميل إسرائيلي معروف ومجرم حرب عتيد، وكان يلتقي في السفارة شخصيات لبنانية، سياسية وعسكرية، صدفة أو عن معرفة، فيما كان على السفارة أن تعرف به، وتمنع دعوته ووجوده، لأنه قد يكون مكلفاً بعمل استخباري ما من العدو الإسرائيلي، الذي ارتبط به منذ العام 1982، وظلّ يعمل في خدمته في سجن الخيام ومسؤوليات أخرى.
وقد صدر حكم غيابي بحقه عن المحكمة العسكرية في العام 1996 بجرائم القتل والعمالة لإسرائيل. وهذه إدانات وفق مراجع قانونية لا تسقط مع مرور الزمن.
ورغم ذلك كان مرور الزمن هو الثغرة القانونية التي تمّ الاستفادة منها لعودة الفاخوري، بجهد من محامين أميركيين ولبنانيين، تكفلوا في تبييض سجله، وإلغاء الأحكام الصادرة بحقه. وهو ما تم قضائياً في محكمة النبطية، وسياسياً عبر اقتراح قانون قدمه «التيار الوطني الحر»، بالسماح بعودة المبعدين إلى إسرائيل، استناداً إلى ورقة تفاهم «مار مخايل» بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
التشدّد مع العملاء
مع انكشاف فضيحة عودة الفاخوري، تحرّك الداعون للتشدّد في ملاحقة العملاء، وهو الملف الذي لم يتم التعاطي معه بالجدية اللازمة كما في دول أخرى. إذ كانت المقاومة –منذ التحرير– متساهلة و«رحومة» مع العملاء، فلم تقبل قيادتها بحصول «ضربة كف» أو أعمال ثأر كان العدو يعول على حدوثها لتجويف انتصار اللبنانيين وتحويله إلى اقتتال عائلي أو طائفي أو مناطقي. فترك «حزب الله» للقضاء معالجة ملفات العملاء الذين قُدّم بعضهم للمحاكمة، لكن الأحكام بحقهم كانت مخففة أيضاً، مما سهل لعميل معروف مثل الفاخوري، أن يستغل ثغرات سياسية وقضائية وقانونية للعودة، وقد سبقه في ذلك غيره من العملاء الذين تمكنوا من تسوية أوضاعهم، من خلال قوى سياسية وحزبية مختلفة.
لا شك أن الساحة اللبنانية مليئة بالعملاء الحاليين والسابقين، ومن غير المستبعد أبداً أن يكون الفاخوري، قد تمّ تجنيده لمهمة في لبنان بعد أن حاز على الجنسية الأميركية. إذ سُجّل اهتمام أميركي لافت به من داخل الإدارة وخارجها، مما يطرح تساؤلات جدية عن توقيت عودته وأسبابها… فهل من مهام موكلة إليه؟ أم هي عودة الابن الضال؟
إن ظهور العميل الفاخوري في لبنان، فتح أيضاً النقاش حول توصيف العمالة، فهل يمكن شطب تعاون بشير الجميّل مع العدو الإسرائيلي، واعتباره رئيساً للجمهورية وإقامة شارع باسمه، واحتفالات رسمية له؟ أوليس هذا ما يشجع الفاخوري وغيره من العملاء على العودة دون اكتراث لمشاعر ذوي الشهداء والمعاقين وضحايا التعذيب؟ أم أن التحرك المضاد بتوقيف الفاخوري والتحقيق معه، ضروري للجم من يعتبر أن الخيانة مجرد وجهة نظر في لبنان، في وقت تعلن فيه القوى السياسية والحزبية كافة عن تمسكها بثقافة أن إسرائيل عدو وليست صديقاً؟
Leave a Reply