ذهب اليها تحت التوافق السوري-السعودي وسقف الطائف
الاسد احتضنه كشقيق فتعززت الثقة بينهما لمصلحة الدولتين
بيروت –
في الممر الذي يصله الى الجناح الرئاسي في قصر الشعب الذي بناه والده الرئيس رفيق الحريري، كان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري يسير بخطى بطيئة واحياناً ثقيلة، لمصافحة الرئيس السوري بشار الدكتور بشار الاسد، هي مسافة زمنية لنحو خمس سنوات انقطعت فيها العلاقة، او توترت بين فريق من اللبنانيين والقيادة السورية، بسبب الانفعالات والاتهامات غير المبررة والمسندة، التي وجهت للنظام الامني اللبناني – السوري المشترك في اغتيال الرئيس الحريري، وتبين عدم صحتها، بدليل عدم صدور قرار بحق المسؤولين في هذا النظام، بل اطلاق سراح الضباط الاربعة من اللبنانيين واربعة مدنيين اوقفوا معهم ايضاً، دون ان توجه اليهم تهمة، كما سبق وذكر شهود الزور، من انهم خططوا مع ضباط سوريين، واجتمعوا في اكثر من مكان، من القصر الجمهوري في سوريا، الى شقة في الضاحية الجنوبية، وكان القصد اصابة النظام في سوريا، و”حزب الله” في لبنان، وقد اعلنت المحكمة الدولية والمدعي العام فيها دانيال بلمار، عدم صحة اقوال محمد زهير الصديق وهسام هسام وابراهيم جرجورة وغيرهم، ممن استقدمهم فريق سياسي امني –اعلامي من قوى “14 اذار” وزودهم بالمعلومات الكاذبة، استند اليها المحقق الالماني ديتليف ميليس في تقريره واوصى القضاء اللبناني بتوقيف الضباط الاربعة، وكان يسعى الى توقيف زملاء لهم من الضباط السوريين، لكن القيادة السورية، قبلت الاستماع الى افاداتهم امام لجنة التحقيق الدولية في جنيف او دمشق وعودتهم الى مراكز عملهم.
لقد فجرت جريمة اغتيال الحريري، العلاقة بين سوريا وفريق سياسي لبناني، ارتبط بمشروع اميركي يهدف الى قيام “شرق اوسط جديد” طرحه الرئيس جورج بوش يطيح بأنظمة في المنطقة يعتبرها غير ديمقراطية، كما حصل في العراق باحتلال واسقاط حكم حزب البعث فيه وعلى رأسه صدام حسين الذي اعدم فيما بعد مع عدد من قيادات نظامه.
كان اغتيال الحريري، الوسيلة للوصول الى نظام الاسد في سوريا، حيث عجّل باخراج القوات السورية، كما قال النائب وليد جنبلاط الذي راهن وعمل على ان رأس النظام السوري سيطير وسيكون مصيره، كمصير توأمه في العراق، وكان التحريض والتجييش وسوق الاتهامات التي قيل انها سياسية، وبان سوريا وراء الاغتيالات والجرائم في لبنان، وكانت التعبئة الشعبية تبلغ ذروتها مع حلول الذكرى السنوية لمقتل الحريري في “1 شباط من كل عام، وتوجيه اقسى الانتقادات والذع الالفاظ واقبحها، واستخدام الفاظ بذيئة ومهينة طالت الرئيس السوري، مما رفع من التوتر والضغينة والحقد، وترجم ذلك بالتعرض للمواطنين السوريين والعمال منهم، اضافة الى احتضان معارضين سوريين، للهجوم على النظام والعمل على اسقاطه.
هذه الاجواء من التعبئة ضد النظام في سوريا، بدأت تتراجع بعد احداث ايار من عام 2008، وقد التقط جنبلاط اشارات أميركية بان النظام باق في سوريا، وغيّرت الانتخابات النيابية الاميركية الإدارة وحل الديمقراطيون محل الجمهوريون في مجلسي الشيوخ والنواب، وصولاً الى رئاسة الجمهورية، فذهب “المحافظون الجدد”، وبدأت مرحلة من الحوار مع القيادة في سوريا، كما خرج الرئيس الفرنسي السابق جالك شيراك من قصر الاليزيه، والذي كان شريكاً مع نظيره الاميركي بوش في استصدار القرار 1559 عن مجلس الامن، الذي طالب باخراج القوات السورية من لبنان، ونزع سلاح المقاومة، فكان رحيلهما من السلطة، انتهاء مرحلة من الضغط على سوريا عبر لبنان، من خلال فريق سياسي امني واعلامي تجند بدعم عربي (مصري-سعودي) لاخراج لبنان من محور الممانعة والصمود الذي تمثله سوريا وايران مع حلفائهما في المقاومة في لبنان وفلسطين.
انتصرت المقاومة على اسرائيل في لبنان، وصدت العدوان خلال 33 يوماً في صيف 2006، ومثلها فعلت توأمها في غزة، وربحت سوريا في خيارها السياسي ضد “عرب الاعتدال”، الذين وصفهم الرئيس الاسد، بأنهم “اشباه الرجال” نتيجة مواقفهم من المقاومة، وانحيازهم الى جانب اسرائيل في عدوانها، واعتبار ما قامت به المقاومة في لبنان بأسر الجنديين مغامرة، مما زاد من الانقسام العربي، الذي انعكس على الساحة اللبنانية، مع تزايد الصراع السوري-السعودي، اذ شهدت فترة ما بعد عدوان تموز، تحركا للمعارضة للمشاركة في السلطة، ومنع استئثار الفريق الذي يأتمر باوامر واشنطن والرياض والقاهرة من الامساك بالقرار، وطرح المشاركة في السلطة، وتمكنت المعارضة من تحقيق اهدافها السياسية، بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تنفيذاً لاتفاق الدوحة.
بدأت قوى “14 اذار” بالتراجع عن اهدافها السياسية وترافق ذلك مع هزيمة المشروع الاميركي في لبنان واكثر من منطقة، وانكسار قوة الردع عند الجيش الاسرائيلي، فقرأ رأس حربة فريق الموالاة النائب وليد جنبلاط المشهد السياسي، وقال لحلفائه يجب ان نغيّر سلوكنا، فالنظام في سوريا لن يتبدل، والمقاومة انتصرت في لبنان وفلسطين، واميركا ستخرج من العراق، فقرر الانفتاح على حلفاء سوريا تمهيداً للعودة اليها، وهذا ما حصل، اذ كان يطلق تصريحات ومواقف مختلفة كلياً عن المرحلة السابقة، فاصبحت سوريا العمق القومي وسلاح المقاومة ضرورة للدفاع عن لبنان، وان اميركا تتبع مصالحها، وفرنسا اعادت علاقاتها مع سوريا بعد وصول نيكولا ساركوزي الى رئاسة الجمهورية، ولم تعد السعودية قادرة على تجاهل دور سوريا في لبنان، بعد ان ظنت انها طردتها منه واستولت عليه عبر “تيار المستقبل” وحلفائه، من خلال تزويدهم بالمال لمنع وقوعه تحت سيطرة “حزب الله” والنفوذ الايراني الذي يتوسع في المنطقة كما اعلن السعوديون الذين حاولوا مذهبة الصراع في المنطقة وقد وافقهم الرئيس المصري حسني مبارك عندما تحدث عن عدم ولاء الشيعة لاوطانهم، والعاهل الاردني عن مشروع ايراني لـ”هلال شيعي”.
في ظل هذه التحولات التي طرأت على الوضع اللبناني الداخلي، الذي لم ينفع فوز “14 اذار” باكثرية في الانتخابات النيابية الاخيرة، لان تشكيل الحكومة ممرها هو مشاركة القوى الرئيسية فيها، مما يعني عدم تمكن هذه الاكثرية من ان تحكم منفردة، وهذا ما دفع بالسعودية الى ان تقر بوجود المعارضة وفعاليتها، بعد ان صالحت سوريا في قمة الكويت الاقتصادية، واعلن الملك عبدالله انه غير متمسك بمبادرته للسلام التي دفنتها اسرائيل، وقد فتح الحوار السوري –السعودي باب الامل في الاستقرار بلبنان، وهو ما كان يتمناه الرئيس نبيه بري، ان يقوم توافق سعودي-سوري (س-س) في لبنان، فتحل الازمة فيه، وهكذا بعد مصالحة الكويت بين الملك عبدالله والرئيس الاسد، عادت العلاقات بين البلدين، وجرت الانتخابات النيابية في لبنان، بعيدة عن المؤثرات الخارجية، فارتاحت الرياض لنتائجها، ورحبت فرنسا بحياد سوريا، وبدأت الساحة اللبنانية تتجه نحو الاستقرار، واعلن سعد الحريري انه يمد يده لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وانه لا يمانع في زيارة سوريا كرئيس للحكومة، وكان يتجاوب مع الرغبات السعودية التي كانت تطالبه ان يسير في الاتجاه نحو المصالحة مع سوريا، ضمن المصالحات العربية التي افتتحت الطريق للحريري نحو سوريا، التي اتفقت معها على صيغة للحكومة من 15 وزيراً للاكثرية و10 للمعارضة و5 لرئيس الجمهورية، حيث نجحت المساعي في الوصول الى حكومة تمثلت فيها كل الاطراف، وقد لعبت دمشق والرياض دوراً في تقريب وجهات النظر، في الوقت الذي كان مدير المخابرات السعودية الامير مقرن بن عبد العزيز يعمل مع نجل العاهل السعودي الامير عبد العزيز بن عبدالله في تعزيز الحوار السوري-السعودي، وعلى تمتين العلاقات التي توجت بزيارة قام بها الرئيس الاسد الى جده لحضور حفل افتتاح جامعة الملك عبدالله الذي رد عليها بزيارة دمشق، حيث كانت نتائجها ايجابية على لبنان الذي خيّمت عليه مناخات المصالحات بين قياداته رعاها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، واخرى تمت بمبادرات بين قوى واحزاب في الموالاة والمعارضة.
تغير المشهد اللبناني بعد انتخابات عام 2009، وتبدلت التحالفات وزال من حكومة الوحدة الوطنية تصنيف الموالاة والمعارضة، وبات الجميع تحت مظلة التوافق السوري-السعودي، وعاد اللبنانيون الى المرحلة السياسية التي قامت بعد اتفاق الطائف وتحت سقفه، الذي اوكل تنفيذه الى سوريا بدعم عربي ودولي، وان الوضع اليوم يؤشر الى اعتراف بدور سوريا في لبنان وتأثيرها فيه.
وهذا الوضع السياسي في لبنان، دفع بالحريري ان يتوجه الى دمشق للقاء الرئيس الاسد، وقد سبق لشقيقة والده النائب بهية الحريري ان اعلنت في “14 اذار” عام 2005، الى اللقاء سوريا، مستشرفة ان الجغرافيا تفرض مثل هذا اللقاء الذي تاخر حوالي اربع سنوات، وكانت تمنعه ظروف خارجية ومشروع اميركي للمنطقة، الذي منع التواصل بعد زيارة الرئيس فؤاد السنيورة الى سوريا في 31 تموز 2005، وبعد ايام من نيل حكومته الثقة، والتي ذهب اليها الحريري ايضاً بعد ايام من نيل حكومته الثقة، ليستقبله الرئيس الاسد بحفاوة وتكريم الرؤساء والملوك، فخصه بلفتات من المودة والاخوة، وتعامل معه كاحد افراد البيت فنام في القصر الرئاسي للتأكيد على عمق العلاقة التي يريدها الرئيس السوري، ولاشعار ضيفه ان سوريا ستدعمه وستحتضنه وستقدم له كل المساعدة لعودة العلاقات التي اكد الحريري في البيان الوزاري على ان تكون اخوية وليست ندية، وجاء الاستقبال والضيافة والخروج بالسيارة معاً، كتعبير الصداقة والاخوة والتعاون بينهما.
لم تكن الزيارة سهلة على الحريري الذي لم يوفر مناسبة واتهم النظام في سوريا باغتيال والده، لكن مجريات التحقيق الدولي، لم يعطه دليلاً، فبات يتحدث عن انه اصبح في عهدة المحكمة الدولية، التي توافقه دمشق الرأي ايضاً، التي تعاونت مع التحقيق، بعد ان كان الرئيس الاسد اكد اكثر من مرة وفي مناسبات عدة، انه اذا ثبت تورط احد السوريين في الجريمة فسيخضع للمحاكمة ويعاقب، وهذا ما وضع عملية الاغتيال والمحكمة خارج التداول وضرورة فك ارتباط بين التحقيق والعلاقة مع سوريا التي اكدت للرئيس الحريري انها تريد علاقات بين المؤسسات، وان المجلس الاعلى اللبناني-السوري ما هو الا صيغة لهذه العلاقة التي لا يمكن ان تربطها علاقات شخصية، بل روابط جغرافية واقتصادية واجتماعية، وهو ما لمسه رئيس الحكومة من خلال لقاءاته التي امتدت على ثماني ساعات مع الرئيس السوري، واكدت على ضرورة استعادة الثقة بين البلدين، وعلى معالجة الملفات العالقة بينهما بعيداً عن التحدي، بل على اسس من المصالح المشتركة لجهة ترسيم الحدود دون ان يستخدم لصالح العدو الاسرائيلي الذي اتفق الرئيسان على ضرورة توحيد الجهود المشتركة لمواجهته وتحرير الاراضي اللبنانية والسورية المحتلة.
فالزيارة التي اعطيت اوصافاً عدة، فوصفت بالتاريخية وطي صفحة الماضي، ولقاء المصارحة والمصالحة، وجلسة تعارف بين الرجلين، وكل هذه المصطلحات تنطبق على الزيارة، ويمكن الاضافة عليها الكثير، الا ان الحكم علي هو بنتائجها، اذ دخل الحريري قصر الشعب –تشرين- بطيء الخطى، متجهم الوجه مثقل اليدين، ليخرج برفقة الرئيس الاسد بسيارة واحدة الى احد مطاعم دمشق القديمة، وقد بدأت على شفتيه الابتسامة، وعلى وجهه الفرح، وخطواته ثابتة، وكان في المؤتمر الصحافي مرتاحاً، حيث عكس مواقف تؤكد على ان العلاقة بين الدولتين عادت الى مجراها الطبيعي وان السنوات الخمس الماضية الثقيلة بمآسيها، قد ولت الى غير رجعة، وان صفحة بيضاء فتحت بين البلدين ستترجم، في عدم تكرار الممارسات السابقة، وقد اصبحت سوريا بقواتها خارج لبنان، الذي ستتعاطى معه من دولة الى دولة وهي اقرت بذلك بتبادل العلاقات الديبلوماسية وفتح سفارتين بينهما، لا يمنع قيامهما استمرار المجلس الاعلى اللبناني – السوري في عمله، بعد تقويم لتجربته والاتفاقات التي عقدت بين الدولتين.
فكيمياء العلاقة بين الاسد والحريري، اصبحت سارية المفعول، حيث يعرف الرجلان انهما لا يمكن لبلديهما ان يستقرا اذا كانت ساحة كل منهما، تعبث بساحة الاخر، لان امنهما مشترك وان محاولة العبث بالنظام فيهما، سيلحق الضرر بالاخر، وان سوريا يؤلمها الانقسام والاقتتال بين اللبنانيين، ويزيد خوفها اذا اتخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً يوصل الى التقسيم، الذي حاربته ودخلت بقواتها لمنعه ووقف الحرب الاهلية.
فالحريري ذهب الى دمشق رئيساً لحكومة كل لبنان، وهو رفض التجاوب مع دعوات البعض من فريقه بارجائها، او بفرض شروط لحصولها، وهو فضّل الذهاب اليها، متخطياً المسائل الشخصية لانه رجل دولة ويريد ان يحكم في لبنان، دون معاداة سوريا، وقد شهد ان مرحلة الاربع سنوات التي خاض فريقه العداء مع سوريا كيف كانت الاوضاع في لبنان؟
Leave a Reply