حسمت صناديق الإقتراع المعركة الإنتخابية في الولايات المتحدة الأميركية متجاوزة كل الإستطلاعات والتنبؤات والرغبات خلال الأسابيع الماضية، لكن هذا الحسم لم يكن طبيعياً فحسب للإسباب الجوهرية التي أجبرت وأرغمت الناخب الأميركي للإتجاه عكس رغباته وطموحاته رغم أن تلك الأسباب منطقية وأهمها النقمة من سياسات الإدارة المنتهية والتي دمرت الإقتصاد وخلقت العداوات مع شعوب العالم بسبب الحروب وهدر الأموال، إن هذا النجاح والإنتصار الذي حققه باراك أوباما لم يكن عادياً بإجماع المحللين رغم أن الرجل يحمل من المؤهلات والكاريزما ما يقدمه على خصمه، فمهما غلب عامل التأثير النفسي بالغرور والكبرياء للمواطن الأميركي وشعوره بالتعالي على بقية البشر من شعوب العالم، وهو أمر لا ينكره المواطن الأميركي، بل كانت معظم الإدارات التي حكمت هذا الشعب تعمل جاهدة لتكريس هذا الشعور بالتعالي والغطرسه وحب الهيمنة والتظاهر بأن المواطن الأميركي هو الأول في كل شيء -في العلم والمعرفة وفهم الحياة- وغيره محتاج إليه، ولذلك كانت الحكومات الأميركية ترسل أساطيلها في أنحاء العالم وتزرع قواعدها في أرجاء المعمورة وترغم حكومات معظم الدول لإبرام إتفاقيات تلزمها بالخضوع لها لعشرات الأعوام تحت شعار التغيير، كما أرادوها لمشروع الشرق الأوسط الكبير، وشاءت إرادة السماء أن تؤكد أنه لا كبير في هذا الكون إلا الله ولا قوة إلا بالله، يقول سبحانه وتعالى {ولا تمش في الآرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} الأسراء آية 37.
هذه المشيئة التي لا يفهمها الماديون الذين لا يؤمنون بالغيب ولا يعتقدون بسنن التغيير، ربما يسلمون الأمر بمجيء شخصية كان يعيش حياة فقيرة وجاهد نفسه في التعليم والعمل السياسي ويصل الى كرسي الرئاسة لأقوى دولة في العالم عن طريق إختيار الناس اليه بهذا الشكل، سببه حالة الغضب من الإدارة السابقة، والشعور بالضياع والخوف من خسارة المستقبل دفع الناخب الأميركي إختيار هذا الرجل، ونحن وأن وافقنا على هذه المعطيات ،فإننا لا نعتقد بأنها الأسباب المباشرة في هذا الحدث الغريب والتحول التاريخي للشعب الأميركي، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: إن معظم الدراسات التحليلية في مختبرات التحليل النفسي في أهم الجامعات الأميركية تشير الى تغيير في الوعي والشعور الداخلي للمواطن الأميركي وبالخصوص الفئة العمرية التي تقع ما بين 18 و30 والتي أوضحت أن نسبة 66 بالمئة من الذين منحوا أصواتهم لأوباما رغبة في التغيير، وأي تغيير هل هو تغيير الوضع الأقتصادي المنهار أم تغيير السياسة الخارجية التي أساءت وشوهت سمعت أميركا في العالم أم تغيير سياسة هدر المليارات من الدولارات على حروب خاسرة تحت حجج واهية ثبت بطلانها، أم تغيير التعامل الفوقي للإدارة الأميركية مع حكومات الدول الأخرى، كل تلك الرغبات في التغيير هي التي كان الدور الأبرز في الوعي الباطني التي لم يتعود عليها الشعب الأميركي خلال خمسة عقود من الزمن.
السبب الثاني: حجم التناغم في الرغبة للتغيير بين الشعب الأميركي وشعوب العالم والتي أظهرته المحطات الفضائية العابرة للقارات والتي وحدت الشعار عندما خاطب أوباما شعبه في كلمته التاريخية بعد إعلان فوزه حين وجه سؤاله لشعبه بقوله -هل نحن قادرون على مواجهة التحديات والعمل على تغييرها -ثم أجاب نعم نحن قادرون- ثم ارتفعت صرخات الملايين في معظم الولايات التي كانت تنتظر خطاب مرشحهم بفارغ الصبر- أرتفعت أصوات حناجرهم بشعار نحن قادرون، ولم يكن الشعب الأميركي وحده قال نعم بل كانت واضحةً حالة التناغم في معظم دول العالم لإيصال الرسالة للشعب الأميركي بأننا معكم نريد التغيير لهذه المبادىء العدوانية التي سنتها إدارة حكوماتكم السابقة التي لم تجن إلا الدمار والخراب والحقد والكراهية وإختلال الأمن، حتى أصبح المواطن الأميركي غير آمن حتى في عقر داره. إن مظاهر الإحتفالات العالمية بفوز باراك أوباما لا تخلو من حقيقة الكارثة التي سببها الرئيس بوش للولايات المتحدة الأميركية في إنحاء العالم تلك البهجة العارمة التي متدت من بكين وطوكيو وكابول مروراً بطهران وبغداد ودمشق ونزولاً الى دول أفريقيا كلها تقريباً وصعوداً الى باريس ولندن وإنتهاءاً الى دول أميركا اللاتينية.
السبب الثالث: الحالة الغريبة التي شاهدها الملايين من الناس على شاشات التلفاز وهي إظهار المشاعر العاطفية الجياشة إلى حد البكاء وذرف الدموع من الصغار والكبار والساسة ورجال الدين مثال القس جسي جاكسون داعية حقوق الأنسان الذي لم يتمالك دموعه وهو يستمع الى كلمة رجل التغيير القادم على منصة التتويج ولم يكن القس وحده من الذين ذرفوا الدموع أو أدلوا بتصريح بأن التغيير قادم لا محال، حتى من كانوا سبباً مباشراً في هذا الإنفجار الغاضب قالوا كلمتهم ولكن بروح منهزمة وفي مقدمتهم الرئيس بوش حين قال إن هذا الإنتصار هو للشعب الأميركي ليثبت للعالم إن مبادىء الديمقراطية هي الفيصل في الحكم، وإن الشعب الأميركي لا ينظر الى رئيسه من خلال اللون أو العرق وإنما ينظر الى الكفاءة ومصالحه العليا.
هل العرب يراهنون على أوباما كما راهن عليه الآخرون؟
لقد ثبت بما لا يدعو الى الشك بأن الشعب الأميركي يريد التغيير وهو محكوم الآن بين إرادته وإرادات من لا يعجبهم التغيير خوفاً على مصالحهم، فهل من الحكمة أن يترك الشعب الأميركي في مواجه فراعنة المال والمناصب، أم يمكن الوقوف معه وذلك برفض الخضوع الى سياساته الخاطئة وبكل حزم حتى يمكن الإسهام في صنع إرادة جديدة تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها أما إذا أوكلت المهمة الى الأنظمة والحكومات التي تعودت الى الذل والعبودية وأن عقيدتها في الإعتماد على حماية الإدارة الأميركية وإن هذه القبلة لن تتبدل فكما وقفوا مع بوش في حربه على العراق ألى هذه الساعة نخشى نحن العرب أن نألب الحكومة القادمة على بعضنا البعض ونرسم لها مبررات كاذبه لإبقائها حارساً في المنطقة على كراسي الحكام ولتسقط الشعوب تحت دبابات جنودها.
Leave a Reply