كمال ذبيان – «صدى الوطن»
شكّل قانون الانتخاب، خلافاً بين اللبنانيين منذ الاستقلال في العام 1943، لأنه مرتبط بتكوين السلطة، والذي كان الزعماء السياسيون يفصلونه على قياس مصالحهم الفئوية، لاسيما منهم أمراء الطوائف بعد الحرب الأهلية، والذين -بفضل النظام الطائفي الذي أقاموه فيما بينهم على أساس «مؤقت»- تحولوا إلى متسلطين على طوائفهم، ويحركون أبناءها وفق ما تقتضيه مكاسبهم أو خسائرهم من الطائفية.
فمنذ عهد بشارة الخوري أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، والصراع قائم على قانون الانتخاب الذي كثيراً ما كان يستخدمه رؤساء الجمهورية للتمديد أو التجديد لأنفسهم، وهذا ما حصل مع بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب الذي في عهده صدر قانون ما يطلقون عليه اليوم «الستين» لأنه أُقرّ في العام 1960، وجرى توزيع الدوائر الانتخابية، بما يضمن فوز المرشحين الداعمين «للعهد الشهابي» وفي مقدمهم كمال جنبلاط والشيخ بيار الجميّل، اللذين شكّلا ثنائي السلطة، فأمّن قانون الانتخاب كتلتين نيابيتين لكل من الحزب التقدمي الإشتراكي وحزب الكتائب فاقت حجميهما، لمواجهة الرئيس شمعون بهما.
والمشكلة في قانون الانتخاب تبدأ في توزيع الدوائر، التي غالباً ما تكون لترجيح كفة هذه الجهة السياسية أو الحزبية أو الطائفية على تلك، فتتم عملية تركيب خارطة جغرافية سياسية، تتيح الفوز لأطراف سياسية وإقصاء أخرى، وهذا ما حصل في كل الدورات الانتخابية، سوى تلك التي جرت في أعوام 1960 و1964 و1968 و1972، وفق قانون الستين.
صحة التمثيل
أما أساس الأزمة في قانون الانتخاب اليوم فهي في النظام الذي يعتمد بين أكثري ونسبي، أو المختلط بينهما، أو التأهيل على الأكثري والانتخاب على النسبي، أو في الصوت الواحد، أو في تعدد الأصوات ضمن اللائحة.
فصيَغ قانون الانتخاب متعددة في العالم، وهي مختلفة بين دولة وأخرى، وفق التركيبة السكانية أو الجغرافية أو الدينية أو العرقية، لكن دائماً يكون البحث في عدالة التمثيل، بما يؤمن صحته، وهو ما يدور النقاش حوله في لبنان، منذ ما قبل الحرب الأهلية، التي يشار إلى أن من أحد أسبابها، هي مسألة تكوين السلطة، التي ينتجها قانون انتخاب يعتمد على النظام الأكثري، فيعيد الطبقة السياسية نفسها، دون إمكانية لإحداث تغيير في بيئة السلطة الحاكمة التي تواجه معارضة لأدائها الفاسد وارتكاباتها، دون أن يتمكّن الشعب اللبناني وهو مصدر السلطات من تغيير ممثليه.
فكانت النسبية هي الحل، لمشاركة السلطة لمن لا يتيح النظام الأكثري ذلك، وتحديداً للأحزاب والتيارات العابرة للطوائف والمذاهب والمناطق، فتحصد أصواتاً على مستوى لبنان، لكن النظام الأكثري وتوزيع الدوائر على مقاسات زعماء الطوائف، يحول دون أن يصل نائب من هذه الأحزاب، إلا إذا تحالفت مع أكثريات طائفية أو طائفية سياسية، يمكن أن تحصل على تمثيل نيابي، وهو ما حاصل منذ العام 1992 مع الحزب السوري القومي الإجتماعي وحزب البعث العربي الإشتراكي.
فبعد حوالي ثمانية عقود من الاستقلال، واقتراب لبنان من الاحتفال بمئوية إنشائه في العام 1920 على يد المنتدب الفرنسي الجنرال غورو، فإنه مازال يتخبّط في صراع حول قانون الانتخاب، الذي رسم اتفاق الطائف طريقاً لإصلاحه، بإخراجه من القيد الطائفي، وكان من المفترض أن يُعمل به بعد أول دورة انتخابات تجرى بعد تحويل الاتفاق إلى بنود في الدستور، فإن الأطراف السياسية تلكأت عن ذلك، طالما أن قانون الانتخاب كان إصداره وفق رغباتها، وبرعاية وتنظيم من الراعي السوري-السعودي للحل في لبنان وتطبيق اتفاق الطائف الذي تمّ الانقلاب عليه في زيادة عدد النواب من 108 إلى 128، وتوزيعهم طائفياً في غير إقامة طوائفهم الحقيقية، مثل المقعد الماروني في طرابلس، أو المقعد الدرزي في بيروت، أو مقاعد أخرى، كما جرت عملية استثناء بأن تمّ اعتماد المحافظات في كل لبنان، كما نصّ اتفاق الطائف، إلا في جبل لبنان، فاعتمد القضاء إرضاءً لوليد جنبلاط وبطلب سوري من الرئيس حافظ الأسد، بعد أن اشتكى له هواجسه من أن الصوت المسيحي في جبل لبنان يغلبه إذا ما اعتمدت المحافظة، فاستفاد رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي من المقاطعة المسيحية للانتخابات احتجاجاً على عدم تطبيق الطائف حرفياً، وحصد في أول انتخابات 18 نائباً.
رفض جنبلاط
هذا الانتفاخ الجنبلاطي في أول انتخابات بعد الحرب الأهلية، ثم تكرّر في الدورة الثانية عام 1996 وبحجم أقل وصل إلى 15 نائباً، ليبدأ العد العكسي منذ العام 2000، ليتقلّص عدد نواب «اللقاء الديمقراطي» إلى 11 نائباً في كل لبنان، وخسر 3 مقاعد مسيحية في الشوف وعاليه في العام 2009، وهو ما يحاول أن يتحاشاه في الانتخابات القادمة في نهاية أيار (مايو) من العام الجاري، إذ أعلن جنبلاط صراحة أنه يرفض أن يخسر مزيداً من مقاعده، وإن كان يطالبه أحد بالمشاركة فهو أعطى مقاعد أو خسر لصالح «القوات اللبنانية» و«حزب الوطنيين الأحرار» و«تيار المستقبل» في الشوف، ولـ«حزب الكتائب» والنائب طلال إرسلان في عاليه، ولـ«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في بعبدا.
فما يعمل ويسعى إليه جنبلاط هو الحد من خسائره في عاليه والشوف، كما أنه قلق أيضاً من أن يخسر مقاعد في البقاع الغربي – راشيا، إذا ما اعتمد النظام النسبي أو تغيّرت التحالفات، إضافة إلى نقمة المواطنين على الطبقة السياسية التي أفرزت لهم أزمات خدماتية ومعيشية واقتصادية واجتماعية، وتسببت لهم بالبطالة والهجرة وغلاء المعيشة، وما ينطبق على جنبلاط من محاولة التخفيف من الخسائر النيابية، يصيب أيضاً «تيار المستقبل» كما قوى سياسية أخرى، التي تشارك في الحكومات منذ العام 1990، ولم تقدم للمواطن شيئاً سوى المزيد من البؤس والفقر.
لاءات عون
ويقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، في مواجهة مع كل المحاولات لمنع صدور قانون جديد للانتخابات، والإبقاء على قانون يعتمد النظام الأكثري، وهو المعمول به حالياً، والذي يريد تغييره، لأنه أعلن في خطاب القسم، أنه سيعمل على قانون انتخابات جديد، تجرى على أساسه الانتخابات، ورفع لاءات ثلاث: لا للقانون الحالي، ولا لانتخابات على النظام الأكثري، ولا للتمديد لمجلس النواب.
هذه اللاءات الثلاث، ضمّنها الرئيس عون تهديدات أو تحذيرات مبطنة، أنه سيدفع إلى الفراغ في مجلس النواب، إذا حاول دعاة فرض الأمر الواقع إجراء الانتخابات وفق «قانون الستين»، وشرح ما يعني النظام النسبي في القانون الذي يريد أن يُعمل به كاملاً وليس مجزّأ مع الأكثري، لأنه يحقق عدالة التمثيل بحيث يعطي كل صاحب حجمه إذا كان يملك أكثرية فسيحصل على مقاعد نيابية، وفق حجمه الشعبي، كما أن الأقلية السياسية في طوائفها أو مذاهبها أو في المجتمع المدني تتمثل أيضاً، وتصبح المنافسة داخل مؤسسات الدولة، لا خارجها، وهو ما يضمن قيام دولة المؤسسات، كما يؤكّد الرئيس عون الذي أبلغ من يعنيهم الأمر أن لا يلعبوا معه لعبة الوقت، من خلال المهل القانونية لإجراء الانتخابات، حيث يميّز بين الدعوة للانتخابات مع البحث الجدي في قانون انتخابات تصل الأطراف السياسية إلى توافق حوله، فيمكن الأخذ بـ«التمديد التقني» لأشهر لا تتعدى الثلاثة، ولكن لن يسمح بفرض انتخابات أمر واقع دون قانون جديد، فيصاب عهده وهو مازال في بداياته بنكسة، لا يريد أن يسجل عليه أن شعاره «الإصلاح والتغيير» هو دون مضمون.
غياب ضابط الإيقاع
فالأزمة عميقة حول قانون الانتخاب، لأنه يحدد تكوين السلطة، ويمكن معرفة نتائج الانتخابات من شكله، فإذا ما بقي القانون الحالي وجرت الانتخابات على أساسه، فإن أعضاء مجلس النواب وكتله ستعرف مسبقاً، وقد تغيّر بنتائجها التحالفات، مثل أن يتحالف «تيار المستقبل» و«تيار المردة» شمالاً، فتكون النتيجة لصالح زيادة عدد مقاعد «المردة» مسيحياً.
وهكذا يدور الخلاف لا بل الصراع حول قانون الانتخاب، حيث يغيب ضابط الإيقاع الخارجي الذي كان ينظم هذا الخلاف، هذا ما حصل في زمن الوجود السوري الذي أمّن قوانين انتخاب ترضي مَن كانوا يسمون «حلفاء»، حيث استفاد منه وليد جنبلاط كما رفيق الحريري وغيرهما، وعندما غادر الجيش السوري من لبنان مع آلته الأمنية، فإن أميركا في عهد الرئيس جورج بوش هي مَن فرضت أن تجرى الانتخابات في العام 2005، وفق قانون كانوا يسمونه قانون غازي كنعان، وعمل بموجبه مَن رفعوا شعار «السيادة والاستقلال» من فريق «14 آذار»، وجرت الانتخابات على أساسه، لينعقد مؤتمر في قطر في ايار 2008 في ظل انقسام اللبنانيين بين «8» و«14 آذار»، ومحورين إقليميين سعودي وإيراني، ومحاور عسكرية لبنانية، فأنتج الدوحة اتفاقاً، أعاد العمل بـ«قانون الستين»، الذي اعتبره المسيحيون أنه أعاد بعض الحقوق لهم، ليتبيّن لهم من خلال نتائج الانتخابات العكس.
ومع انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة، وكلاهما حصلا في ظل شبه توافق داخلي ودعم دولي واقليمي، فمَن ينتج قانوناً للانتخاب، ووفق أي صيغة، وهل يستطيع العماد عون فرضه؟
Leave a Reply