قبل ما يربو على الأحد عشر قرنا عاج شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء “أعمى المعرة”، أبو العلاء المعري على اللاذقية في طريقه الى طرابلس.
وكان في اللاذقية دير للرهبان هو دير الفاروس الذي وصفه ابن بطوطة في رحلاته بأنه “أعظم دير بالشام ومصر”. وأقام المعري في اللاذقية فترة غير محددة. وفي يوم من أيام إقامته سمع أجراس الكنيسة وصوت الآذان فقال أبياته الثلاثة التي طارت شهرتها على مر العصور كونها طرحت تحديا جديدا أمام النقاد عما إذا كان المعري ملحدا أم مؤمنا:
قال المعري:
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح
كل يعظم دينه يا ليت شعري ما الصحيح؟
ليس المقصود مما سلف أن نحاكم أبا العلاء في هذه المقالة. فهذا الشاعر العربي المحيّر، الواقع بين منزلتي الإلحاد والإيمان، إنما أحيى في أبياته الثلاثة الآنفة ما بقي راسخا على مدى القرون، وهو ان اللاذقية (مثل كل المدن السورية) كانت ولاتزال تحتضن أتباع الديانات السماوية. حيث تتجاور المساجد والكنائس والكل، مثلما يخبرنا المعري، يعظم دينه بحرية تامة.
لم تعرف سوريا بشكلها الحالي أو بصورتها التاريخية كجزء مما كان يعرف ببلاد الشام أية مشاكل طائفية ذات شأن يذكر. وهي التي تولى رئاسة أول حكومة استقلالية فيها مسيحي لبناني يدعى فارس بك الخوري، وأسلمت تمثيلها لدى الاتحاد السوفياتي العظيم بقيادة جوزيف ستالين الخارج منتصرا على النازية في الحرب الكونية الثانية، الى شاعر ومحام شيعي من الجنوب اللبناني يدعى عبدالمطلب الأمين. كان ذلك في العام 1950. وسوريا أيضا، هي التي تولى فيها رئاسة أركان الجيش، اللبناني الدرزي الزعيم الركن شوكت شقير واحتل منصب ثاني أقوى شخصية في الدولة بعد الرئيس أديب الشيشكلي وقتها.
ولقد ظلت سوريا بعد استلام حزب البعث الحكم في العام 1963 “جنة للعلمانية” والابتعاد عن الطائفية، وحين كان لبنان يحترق بأتون الحرب الطائفية على مدى خمسة عشر عاما ما بين 1975-1990 وهو الجار الأقرب لسوريا، كان المسلمون فيما بينهم، ومع المسيحيين، في سوريا، يتعايشون بلا أدنى مشاكل. وظلت سوريا ايضا وبنظامها الحالي “مرجعا” و”منقذا” للبنانيين من عصبياتهم الطائفية، يعودون اليها طواعية أو إكراها، لإنقاذهم من حروبهم العبثية، وكان الشعار الأكثر تداولا على مدى تلك الحقبة أن سوريا تقف على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين.
فجأة وبلا مقدمات بدأت مفردة الفتنة تشيع على نطاق واسع في سوريا، وصار تهديد اللحمة الوطنية هاجسا داهما لنظام لطالما تفاخر بأن هذه اللحمة هي عنوان منعة البلاد وعونها في مواجهة المشاريع التي تستهدف ممانعتها في وجه المشاريع الاستسلامية التي تهيأ للمنطقة.
لم يكن الغريب أن يخرج السوريون على غرار ما فعل التونسيون والمصريون مطالبين بالتغيير والاصلاح، بل إن استمرار صمت السوريين عن التباطؤ في هذه العملية، وهو ما أقر به الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير، كان هو الغريب بذاته.
لكن المثير للخشية، بل للهلع، أن نكون أمام حالة من تصدع هذا البنيان الوطني والقومي أمام حفنة من المطالب الاصلاحية التي يقر النظام بضرورة إجرائها، ويعلن أنه وضع لها مسودات لكن ظروفا أخرت إقرارها وهي ظروف يعزوها النظام الى التحديات الإقليمية التي واجهتها سوريا، خصوصا في العقد الأخير الذي شهد عواصف سياسية وعسكرية هزت أركان النظام الاقليمي برمته وهددته بالسقوط.
واذا كان من غير المستغرب أن يخرج السوريون للمطالبة بمزيد من الحريات، مثلما فعل المصريون والتونسيون والبحرانيون واليمنيون والليبيون، الا أن التعاطي الأمني العنفي مع المتظاهرين نال من مصداقية الرئيس الشاب بشار الأسد، باحداث اصلاحات بنيوية في النظام لنقل سوريا الى عصر الحداثة السياسية والتنموية والى الديموقراطية وتعزيز دور الدولة الحاضنة لكل مكونات النسيج السوري. وهنا قد يجادل كثر بأن الرئيس بشار الأسد يمتلك الرغبة في الاصلاح والتحديث وتوفير مساحة من الحرية والمشاركة السياسية، لكن “الحرس القديم” ظل يعرقل خطط الرئيس الشاب ويبطئها لاعتبارات شخصية وللحفاظ على مواقع نفوذ في السلطة. لكن ما شهدته بعض المدن السورية في الأيام الأخيرة من احتجاجات وما رافقها من عنف وسقوط لقتلى وجرحى واعتقالات، كان يجب أن يسهم في حسم الرئيس الأسد أمره والانطلاق في عملية الاصلاح التي وضعت خطوطها منذ عدة سنوات القيادة القطرية للحزب الحاكم وفق ما يؤكد الرئيس نفسه.
لكن بخلاف ذلك صار أي اعتراض على نهج الحكم “عملا طائفيا” وطريقا الى الفتنة فيما التأييد لنهج الحكم هو “موقف وطني”.
هذه المعادلة غير المنطقية التي ارتسمت خطوطها على وقع الاحتجاجات الأخيرة في سوريا، والتي وجدت ترجمة شبه مباشرة لها في الخطاب الرئاسي أمام مجلس الشعب لا تنسجم مع التطلعات الاصلاحية التي جاهر بها الرئيس السوري الشاب، ولم يخف رغبته في تحقيقها خلال السنوات الأخيرة، عبر إطلالات إعلامية عديدة.
وليت الرئيس لم يختر اطلالته لمخاطبة شعبه من على منبر “مجلس الشعب”، الذي يفترض ألا يكون مكانا للتصفيق وارتجال الشعر تملقا وحسب، بل أيضا مكانا للمساءلة والمحاسبة. فرأينا كيف أن الرئيس كانت تحرجه الاطراءات الشعرية والنثرية على لسان من يفترض أن يحملوا هموم شعبهم وتطلعاته وهو ما لفت اليه الرئيس الأسد في رده على احدى “النائبات” عندما طلب اليها أن تكون في خدمة الشعب قبل أن تفتدي شخص الرئيس بالغالي والنفيس!
ولأن سوريا تتمتع بموقع جيوسياسي فائق الحساسية في منطقة تشهد في هذه الآونة ربيع الشعوب، فان الحفاظ على لحمة الشعب السوري بكل أطيافه وصيانة وحدته الوطنية هو مسألة في غاية الخطورة والأهمية ليس فقط لسوريا بل لعدد من الدول المحيطة بها وأولها لبنان، الذي سيكون خراب سوريا خرابا له بالدرجة الأولى.
وهذه المهمة ترتدي صفة تاريخية سوف تحسب لنظام الرئيس الأسد سلبا أو ايجابا فالتغيير والاصلاح والديموقراطية باتت مطالب بديهية لكل شعوب المنطقة، لكن التحدي الأعظم يبقى في اتاحة حصوله بصورة سلمية. وفي بلد مثل سوريا لا يسع المرء أن يتخيل البدائل عن أي تغيير سلمي، بكارثيتها التي سوف تنسحب على المنطقة العربية برمتها لو اختار النظام ومعارضوه “النهج الليبي” في المواجهة وهذا ما يصلي كل عربي غيور ومخلص لتجنيب سوريا كأسه..
Leave a Reply