وسام شرف الدين
«ويكونُ أنْ يأتي
بعدَ انتحارِ الريحِ في صوتي
شيءٌ روائعهُ بلا حَدِّ
شيءٌ يسمّى في الأغاني:
طائرَ الرعدِ
لا بدّ أن يأتي
فلقد بلغناهَا
بلغنا قمّة الموتِ»
(سميح قاسم)
من العراق إلى لبنان، أعلنت شعوبنا الحية بأن الأنظمة القابعة على رقابها، والمتحكمة بناصية بلادها ومقدراتها، قد سقطت في قلوب الناس، وآن لها أن تسقط في واقعهم، وآن للجراح النازفة منذ عقود، من تسلّط الأتراك، إلى الاستعمار الغاشم، إلى الانتداب المذل، إلى الفاشية والدكتاتورية والشمولية، إلى الاحتلال الإسرائيلي، إلى الفساد المستشري والطائفية الخبيثة، والتهجير والنفي المختبئ بعباءة الهجرة، والسرقة على عينك يا تاجر، آن لهذه الجراح أن يقف نزيفها، وآن لليل استحمار الشعوب واستخفافها أن ينجلي، وآن لقيد الخوف أن ينكسر.
لا أظن أنّ هناك إنساناً ما في كامل قوته العقلية، يصعب عليه فهم ضرورة الثورة في بلدٍ كلبنان، بل حتميّتها. بلدٌ يحتل المرتبة الأولى عربيّاً والرابعة عالمياً بالمديونية،
بلدٌ يخصص فيه للجامعة اللبنانية، التي تكتنف 80 ألف طالب و11 ألف أستاذ وموظف، 250 مليون دولار، وهي تعوم بالأمطار شتاءً وتطوف بالمجارير على طلابها، هذا ويحتاج الطالب للتسجيل فيها عادةً إلى واسطة أحد الأحزاب، بينما يُخصص لجمعيات زوجات السياسيين ما يقدّر بـ500 مليون دولار سنوياً. بلد صرفت فيه بلدية بيروت أكثر من 450 مليون ليرة لتحسين نسل الحصان العربي، بينما تفتقد المدينة لجميع مقومات البنية التحتية والتنظيمية الضرورية لمدينة كبرى، والمقدمات الأولية للمحافظة على سلامة المواطن.
بلد لم تخرج منه بعد، قطرة نفط، ولكن يستلم فيها كل عضو في هيئة البترول معاش 300 مليون ليرة سنوياً منذ ست سنوات. بلد يضبط فيه الشعب بمعدّل 60 ألف دولار لمخالفات مرورية يومياً، ويكاد لا يصل من تلك المخالفات قرشاً واحداً لخزينة الدولة، حيث تذهب بمعظمها للقضاة ومستشاريهم، والفضلات إلى وزارة الداخلية.
بلد فيه من أعلى نسب السرطان والأمراض القلبية، حيث سجلت في سنة 2018 حاولي تسعة آلاف حالة وفاة بالسرطان، وبلد لا يستطيع –إلى الآن– أن يعالج زبالته بطريقة سليمة نتيجة الفساد المستشري، حيث تحرق الزبالة وترمى في أماكن تؤذي البيئة والشعب منذ أربع سنين، مع العلم أن معالجة هذه القضية بشكل سليم وصحّي كبقية دول العالم أرخص بثلاث مرّات من استخدام المحارق، ولكن اختلف لصوص السياسة على التربح من هذا المشروع فجمّد، وكتبت عنه جريدة «نيويورك تايمز»، الثلاثاء الماضي، تحقيقاً مفصّلاً عنوانه: «لتفهم مظاهرات لبنان، إلحق الزبالة».
دولة تستعبد الشعب إلى آخر رمق فيه، وتمص دمه إلى آخر قطره، بأسعار باهظة في كل شيء، فالبنزين يُباع بثلاثة أضعاف تكلفته، وفوق ذلك تكلّفه بضرائب تعتبر من الأعلى في العالم، ومن ضريبة دخل دون تأمين تقاعد أو ضمان شيخوخة، وضريبة ميكانيك من غير صيانة للطرقات تخلو من الفساد، وكان آخر الضرائب بالإضافة إلى زيادتها، وضع ضرائب على خدمة «واتساب» المجّانية، التي كانت القشة التي كسرت ظهر البعير، وأشعلت الثورة.
دولة استشرت فيها الطائفية، التي ينص الدستور على إلغائها منذ 1991، فاستشرى فيها الفساد حتى بات مجموع الأموال المنهوبة على أيدي السياسين يقدر بحوالي 800 مليار دولار بينما إجمالي الدين العام هو حوالي 100 مليار دولار.
بلد فيه أربعة ملايين لبناني فيما هاجر منه قصراً ما يقدر بنحو 16 مليوناً تشرّدوا في أنحاء العالم، وبينما يرزح 30 بالمئة من اللبنانيين في لبنان تحت خط الفقر، تُصرف 46 بالمئة من إيرادات الدولة على معاشات النواب والوزراء والموظفين الحكوميين.
بلد في المرتبة 121 من 134 في الرشاوى، وفي المرتبة 134 بتوفر الكهرباء، التي استنزفت 38 مليار دولار من التسعينيات إلى الآن ومازالت غير متوفرة 24 ساعة مثل معظم دول العالم الثالث، والمرتبة 130 من 137 بجودة البنية التحتية عالمياً.
بلد تحترق غاباته بينما مروحيات إطفاء الحرائق تجلس في المطار لأنها تحتاج إلى صيانة، رغم تخصيص 450 ألف دولار لصيانتها، بينما 4.5 مليون دولار خصصت لأكاليل الورد في ميزانية 2019.
عرفتم الآن لماذا لابدّ أن يثور؟
كان الشعب اللبناني بأغلبيته الساحقة قد وقف مع الثورة اللبنانية أو الحراك الشعبي في أيامه الأولى، حتى جهّز السياسيون مع إعلامهم قوالب التخوين والتهويل ونظريات المؤامرة الجاهزة، وقدموها إلى أتباعهم من الشعب المسكين الحائر الجائع، فأثاروا الشكوك والظنون في قلب شريحة من الشعب، إلا أن الثورة لم يقف نبضها، لأنه لا وراء للرجوع إليه سوى شفى انهيار وحسيس نار.
إن بعض الأحزاب التي حاولت أن تستغل الثورة لمصالحها الخاصة، فشلت في اختراقها، إذ رفضت الثورة جميع الأحزاب متخذة شعار «كلن يعني كلن» لتوضّح موقفها غير المنحاز لأي من أطراف السلطة، كما أكدت الثورة التزامها بالتمييز بين «حزب الله الدولة»، و«حزب الله المقاومة»، ولم يصدر أي شعار في جميع ميادين الثورة ضد سلاح المقاومة، على عكس ما حاولت بعض الإشاعات نشره.
جاء الهجوم على الثورة هزيلاً من جهات السلطة وأبواقها الإعلامية، فتارة تتهم بالتمويل من السفارات، وتارة أخرى يلقى اللوم عليها بالنسبة للوضع الاقتصادي، وتارة تُحمّل مسؤولية خطاب فيلتمان ونتنياهو، أما الثورة فقد تعاملت مع هذه الترهات بالسخرية والتنكيت، باعتبارها مفردات القمع نفسها التي اعتادت عليها الشعوب العربية.
البعض انتقد مظاهر الرقص والغناء التي عبر من خلالها الثائرون عن سلميتهم وعفويتهم، إما إذا عبرت بقطع الطرقات أو إشعال الإطارات، تنتقد على همجيتها، لذلك، أقول للمنتقدين:
آسف أنّ صراخ جارك الجائع الذي أزعجك كان أعلى من شخير النظام المتخم الذي جوّعك.
محاولات البلطجة من أتباع بعض أحزاب السلطة، عبر حرق خيام الثورة وتكسيرها على رؤوس أصحابها، ارتدت بصورة سيئة عليهم وقلبت المشاعر ضدهم. لكن هذا السلوك المشين لم يثن الثوّار الذين أعادوا نصب الخيم مراراً وتكراراً بلا ملل أو كلل، مصرين على الأمل بالتغيير، ومؤمنين بسلمية الثورة وقداستها، كطائر الرعد الذي ينبثق من بين النيران.
يقول الدكتور علي شريعتي: «إذا لم تكن شاهداً على عصرك ولم تقف في ساحة الكفاح الدائر بين الحق والباطل، وإذا لم تتخذ موقفاً صحيحاً من ذلك الصراع الدائر في العالم، فكن ما تشاء: مصلياً متعبداً في المحراب أم شارباً للخمر في الحانات.. فكلا الأمرين يصبحان سواء».
نعم.. أنه موقف تاريخي سوف يسجّل علينا.
امتازت هذه الثورة بأمور جعلتها مثالاً حديثاً للثورات الحضارية والحراكات الواعية في عالمنا العربي والإسلامي، بل في العالم أجمع: أولاً انطلقت بزخم شعبي من مجموعات شبابية منظمة ومتداخلة ما بينها من غير قيادة. تتفاعل الثورة عن طريق الواتساب وصفحات التواصل الاجتماعي، مع تجنب مقصود لإبراز أية شخصية. وهذا الابتعاد عن الشخصنة هو ثورة بحد ذاته، كما أن عدم وجود قيادة نقطة قوة للثورة العفوية التي تدرك جيداً، من خلال تجاربها مع ذئاب السياسة اللبنانية، أن بروز قيادة، سيوفر فرصة للأحزاب للتصويب عليها ونهشها وهي حية، فيتشرذم موزاييك الثورة.
كتبت مجلة «فورين بوليسي»، وهي من أهم المجلات السياسية، في 25 تشرين الأول (أكتوبر)، مقالاً بعنوان: «مظاهرات لبنان من غير قيادة، وهذا يمكن أن يكون مصدر قوتها».
ثانياً: تقدمت النساء والفتيات الثورة، والأمهات مؤخراً، في نفس الروح التي انطلقت فيها ثورة السودان والعراق، من غير أي تقرير عن أي تحرّش جنسي، ووقفت الفتيات حاجزاً بين أدرعة الشرطة وهراواتها وبين شباب الثورة، حتى يؤكدن على سلميتها، ويدافعن بأجسادهن عن سلامة المتظاهرين من الشباب، وكتب ريشارد هول، في جريدة «إندبندنت» البريطانية مقالاً بتاريخ 9 تشرين الثاني (نوفمبر) بعنوان: «في لبنان، مكان المرأة قيادة الثورة».
نظمت الشاعرة اللبنانية الشابة سارة بشار الزين:
لأنّ الرصاصةَ أنثى
سَتَفْضَحُ عُري الحِيادِ
وتقلعُ من جوفِ هذي المدينةِ
جذعَ التثاؤبِ بعد السُّباتِ
تحرّرُ عينَ الشوارعِ من رمدِ الشَّكِّ في الأغنياتِ
وتنثرُ شعرًا على حاجِبِ الوطنِ المُستباحْ!
لأنّ الرصاصةَ
تأبى التشظّي
إذا لم يشدَّ على زندِ صحوتِها
شاعرٌ ملَّ طعمَ النواحْ!
لأنّ القصيدةَ
مثلُ الرصاصةِ
أُنثى
تُفجّرُ في الحرّ ألفَ سلاحْ!
ثالثاً: أسقطت هذه الثورة، الطائفية على مستوى التطبيق، حيث لا تستطيع أن تميز بين دين متظاهر عن آخر في ميادين الثورة، حتى أنهم جعلوا للطائفية مشنقة في ساحة، وفي أخرى تابوتاً وجنازةً رمزية. الجميع نادوا بالشعارات نفسها، وحُملَ علمٌ واحدٌ هو العلم اللبناني، وبات النشيد الوطني هو نشيد الثورة، واختلطت المناطق بعضها ببعض، ومحت الأمهات خطوط التماس القديمة بمسيرة تاريخية جميلة عندما اصطدم بعض أتباع الأحزاب ببعضهم البعض.
رابعاً: وضوح خارطة الطريق وعدم المطالبة بأكثر من التطبيق الحقيقي للدستور والقانون، فلقد نشر الثوار خارطة طريق اتفقوا عليها تشتمل على أربع خطوات، أولها سقوط الحكومة وقد سقطت، وثانيها تكليف رئيس حكومة نزيه وخارج دائرة السياسيين الحاليين يمكنه أن يؤلف حكومة انتقالية أو حكومة إنقاذ تخرج البلد من أزمته المالية، وثالثها إجراء انتخابات مبكرة على أساس قانون انتخابي تطبيقاً للدستور، وآخرها إعادة تكوين السلطات من خارج القيد الطائفي.
على الثورة اليوم أن تبدأ تشكيل مجلس للتنسيق اتقاءً من كيد الكائدين ومكر الماكرين، فها هي الرايات بصوت واحد من بغداد إلى بيروت، تنادي بأن الوطن، بأن العروبة هي هويتنا، والحرية والكرامة هي غايتنا.
إنّ هناك من يقرأ التاريخ، وهناك من يكتبه، وتاريخنا الحديث يُسطّر اليوم في شوارع بغداد الدامية، وبيروت المغلقةِ بأجساد الشباب، ولن تبقى الشعوب العربية تشاهد الحرية والتقدم والرفاهية والازدهار في الدول الأخرى على التلفاز ثم تنام.
يقول الشاعر هشام الجخ رداً على التخوين والتخويف من الثورة:
لا تتركيهم يخبروكِ بأنـني
متمردٌ خانَ الأمـانـةَ أو سَها
إني أعيذكِ أن تكوني كالتي
نقضتْ على عَجَلٍ وجهلٍ غَزْلَها
لا تتبعي زمنَ الرُوَيْبِضَةِ
الذي فقدتْ على يده الحقائقُ شكلَها
لا تتركيهم يخبروك بأننـي أصبحتُ
شيئاً تافهـاً ومُـوَجَّها
فأنا ابنُ بطنِكِ.وابنُ بطنِكِ مَنْ أَرادَ
ومَـنْ أقالَ ومن أقـرَّ ومن نَهَى
صمتَتْ فلـولُ الخائفينَ بِجُبْنِهِم
وجُمُوعُ مَنْ عَشِقُوكِ قالتْ قَوْلَها
Leave a Reply