مريم شهاب
أنت مثلي، إنسانٌ آتٍ من بلاد الشرق، تحمل جيناتك القلق والخوف والريبة في هذا العالم. ما يحدث حولك وما تسمعه وما تقرأه، يجعلك تحمل رأسك بين يديك وتضغط بقوة وتصرخ، هل هذا العالم مجنون أم أنا المجنون؟ ما يحدث هنا بين الجمهوريون والديمقراطيون أو هناك بين أميركا وإيران وليبيا والعراق ولبنان… أحداث لا تُصدَّق ولا تُطاق.
لكن –ببساطة أهل القرى– أقول لك: لا تتحمّس. بعد سنوات القهر والذل في وطنك لبنان، قامت ثورة أو حراك مدني، أو انتفاضة شبابية ضد الطقم القديم الصدئ من زعماء السياسة وكهّان الدين وحيتان المال ووحوش المال والأعمال. ومثل الكثيرين هنا أو في لبنان أو في أي بلدٍ يعيش فيه لبنانيون، شعرنا بفرحٍ عظيم من بارقة الأمل، ولكن بدلاً من دعم الحراك بعقلانية توازي حجم الحلم لدى الشباب المخلص، دارت طاحونة التحليلات والتهليلات بغوغائية مقززة فتم تمييع أي حوار عقلاني متزن وتحولت بعض النقاشات إلى شجار انفعالي وزعيق على حرية الآخر، بينما زعماء لبنان الفاسدين والتي قامت الثورة ضدهم، أصابهم خرس وامتنعوا عن الكلام المباح ولبدوا مثل البّق الذي شبع من امتصاص دماء الرعيّة.
أين الحراك الآن؟ وأين الثورة؟ وأين الليرة؟ وأين لبنان اللي راجع يتعمّر أحسن مما كان؟ أين الحماس الذي دخل قلبك حتى الإيمان بذلك «الوطن» الذي بخاطرك وطن الحرية والعدالة والمساواة والتسامح، وطن الحياة بحلوها ومرِّها خالي من عفونة الطائفيّة والحزبية والمحسوبية؟ هل لوّث فساد الزعامات طهارة الشباب؟ ورجعت حليمة لعادتها القديمة!
في أوائل الستينات، حضر إلى قريتنا مهندس للإشراف على عملية جرّ المياه إلى قرى وبلدات جنوب لبنان. في إحدى المرات، كان المهندس ينتظر الجزار ليعطيه قطعة من اللحم الطري، منبهراً بكلامه المنسق والفهلوة في إقناع الزبون بأن ما يبيعه هو أجود أنواع اللحم وأنظفها، بينما الحقيقة عكس ذلك.
دخلت إحدى السيدات وبيدها كيس ممزق كي وقد بدا عليها الإرهاق والخوف. جلست على كرسي وراحت تندب حظها العاثر في نوبة من البكاء والشكوى. تحمس المهندس كثيراً وسألها ما بها. فقالت له إن أحدهم اعترض طريقها وسلبها مبلغاً من المال وعقداً ثميناً ورثته عن جدة جدتها، وراحت تلطم لخسارتها الجسيمة.
كان الجزّار ينصت بقلة اهتمام حتى سمع المهندس يقول لها إنه مستعد لأخذها بسيارته إلى مخفر الشرطة في تبنين لتقديم شكوى. بكل هدوء طلب، طلب الجزار من المهندس خمس ليرات ثم خرج من دكانه وطلب من أحد سائقي سيارات الأجرة أن يأخذ المرأة إلى مخفر الشرطة ويدير باله عليها كأخته وأعطاه أجره سلفاً خمس ليرات.
ثم التفت الجزار إلى المهندس قائلاً له: حماسك كان سيؤدي بك إلى التهلكة، فهذه السيدة هي من الغجر المتمرسين في الاحتيال، وسوف تتهمك حال النزول من سيارتك أنك أنت من اعتديت عليها وسرقت مالها وذهبها الذي لا تملكه هي أصلاً. واتقاءً للفضيحة كانت ستطلب منك تعويضاً مقابل ألا تشتكي عليك.
هذه الكلمات ليست وعظاً لك أيها القارئ العزيز، بل هي مجرد لفت نظر كي لا يأخذك الحماس لما يحدث في لبنان، أو ما يحدث بين أميركا وأيران، أو في ليبيا واليمن وأفغانستان… ثبّت عقلك في رأسك، والدنيا هكذا، منذ البدء وحتى اليوم، مثلما غنّى المرحوم عزيز علي: كلها أطماع بأطماع ونحنا فيها دوم صراع.
Leave a Reply