شهدت ديربورن خلال السنوات الأخيرة نزوحاً كثيفاً للسكان العرب الأميركيين نحو المدن والبلدات المجاورة، مثل ديربورن هايتس وليفونيا وكانتون ونورثفيل وغيرها من ضواحي ديترويت، مدفوعين بالبحث عن منازل أوسع وفرص عمل أفضل، ومستوى معيشي أرقى لعائلاتهم، بعد أن ازدادت المظاهر السلبية في المدينة كالازدحام وارتفاع أسعار التأمين على السيارات والضرائب العقارية..
تبدو دوافع من غادروا المدينة معقولة ومبررة للوهلة الأولى، لكن الحقيقة التي يجب أن تبقى ماثلة في أذهان الجميع، تكمن في أن أسباب البقاء والتمسك بـ«عاصمة العرب الأميركيين»، أكثر استحقاقاً وجدارة، فديربورن تتمتع بمؤهلات استثنائية للعيش والتعلم والعمل والاستثمار والتنقل في منطقة مترو ديترويت، ناهيك عن الجانب العاطفي .. لكونها المدينة التي شكلت على مدى عقود وجهة ومقصداً للموجات المتتالية من مهاجري الشرق الأوسط الذين نجحوا في تثبيت أقدامهم وحقوقهم وتأسيس عائلاتهم وأعمالهم ليتمكنوا من تحقيق النجاح والانتشار في عموم منطقة ديترويت.
من الناحية الاقتصادية، ومع انبعاث ديترويت من مواتها الطويل خلال العقود الماضية، حيث عادت «عاصمة السيارات» لاستقطاب الشركات والوظائف والأعمال التجارية من مختلف الأحجام، يمكن لمدينة ديربورن المجاورة لديترويت وبوابتها نحو مطار ديترويت الدولي، أن تكون في مقدمة المستفيدين من نهضة المدينة العريقة التي من المرجح أن تفيض عوائد ازدهارها على الجوار، لاسيما ديربورن التي تبعد عن وسطها التجاري أقل من 10 دقائق.
وديربورن، مدينة هنري فورد، تضم المقر العالمي لشركة «فورد» لصناعة السيارات التي أعلنت العام الماضي عن خطة لاستثمار 1.2 مليار دولار في إعادة بناء وتطوير مقرها بهدم واستبدال أكثر من 70 مبنى من مبانيها خلال عشر سنوات قادمة، في إطار رؤية الشركة العملاقة للتوسع ومواكبة المستقبل والتطور التكنولوجي، مما سيساهم بلا شك في مضاعفة فرص المدينة بالنمو والازدهار.
من الناحية التعليمية، ورغم أن ديربورن هي ثامن أكبر مدينة في ميشيغن من حيث عدد السكان، إلا أنها تحتضن ثالث أكبر منطقة تعليمية في الولاية من حيث عدد الطلاب المسجلين في مدارسها العامة التي تحقق النجاحات الأكاديمية الباهرة عاماً تلو آخر، وهو ما يتجلى بتخريج ثانوياتها الثلاث طلاباً متفوقين انتسب الكثيرون منهم إلى أرقى وأشهر الجامعات الأميركية، كما أن المدينة نفسها تضم جامعتين بارزتين تعتبران من أرقى المؤسسات التعليمية في الولاية، وهما «جامعة ميشيغن -فرع ديربورن» و«كلية هنري فورد».
في حزيران (يونيو) الماضي، تخرج من مدارس ديربورن 1368 طالباً، بمعدل بلغ 93 بالمئة، وحينها وصف المشرف العام على مدارس ديربورن غلين ماليكو ذلك المعدل بأنه «أعلى من أي وقت مضى»، مشدداً على ضرورة بذل أقصى الجهود من أجل استدراك الـ7 بالمئة الباقية. وأضاف في حديث مع «صدى الوطن» قائلاً «لقد تم قبول جميع طلاب ثانوياتنا لدخول الجامعات».
وقد حصل 146 طالباً من أصل 606 من خريجي ثانوية فوردسون على منح دراسية بقيمة 3 ملايين دولار، كما حصل 121 طالباً من أصل 443 من خريجي ثانوية ديربورن هاي على منح دراسية بقيمة 3.7 مليون دولار، فيما حصل خريجو ثانوية إدسل فورد المتفوقون على منح بقيمة تزيد عن 1.5 مليون دولار.
صحياً، يوجد في المدينة مستشفيان يضمان أفضل الكوادر الطبية ومجهزين بأحدث الأجهزة والمعدات التكنولوجية، وهما «مستشفى بومانت» و«مستشفى هنري فورد»، اللذين يقدمان خدمات صحية وجراحية، إضافة إلى الخدمات التعليمية التي توفر برامج الإقامة والزمالة للأطباء وطلاب الطب البشري.
من الناحية الأمنية، ولكون ديربورن تضم أعلى كثافة للعرب في أميركا، فهذا يشكل بيئة آمنة حمت الأجيال المتلاحقة من الشرق أوسطيين -عرباً ومسلمين- من الجريمة والتمييز العنصري في خضم موجات التعصب والكراهية. فرغم ارتفاع وتيرة الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة، إلا أن ديربورن ما تزال محافظةً على هدوئها وتنوعها الفريد.
ثقافياً، تمكن العرب في ديربورن من الحفاظ على تقاليدهم وثقافتهم ولغتهم الأم ونقلها إلى النشء الجديد، وأسسوا فيها مساجد وكنائس ومدارس وأعمالاً تجارية صغيرة ومتوسطة ومنظمات ونواديَ اجتماعية حتى غدت المدينة بحق «عاصمة العرب الأميركيين في الولايات المتحدة».
من الناحية الوجدانية، ديربورن هي رمز لحلم العرب بوطن واحد يجمعهم معاً، فالمدينة استقطبت -ومنذ البدايات- اليمنيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين، وغدت بحق قلب التنوع العربي، والتعبير الأمثل عن غياب الحدود السياسية بين شعوب الوطن العربي.
لهذه الأسباب مجتمعة، ينبغي على العرب أن يتمسكوا بديربورن أكثر من أي وقت مضى، لاسيما وأنهم سكنوا المدينة وثبتوا فيها رغم المشاق والصعاب، ونجحوا في وضع بصمتهم على تاريخ المنطقة بالدماء والعرق والدموع.. فلماذا نتركها وهي حاضنة تاريخنا ومستقبل أجيالنا؟
Leave a Reply