لقد قطع المهاجرون العرب الأميركيون آلاف الأميال في رحلتهم إلى الولايات المتحدة من أجل تحسين ظروف حياتهم والتنعم بمناخات الحرية والسلام التي باتوا يفتقدونها في أوطانهم الأم بعدما عصف بها الفقر والعنف والبطالة وغياب الأمن والنزاعات الإثنية والطائفية حتى باتت هذه الآفة الأخيرة تهدد حاضر البلدان العربية وتدفع بمستقبلها إلى شفير الهاوية.
وعلى هامش ما أطلق عليه تسمية «الربيع العربي»، بات واضحا أن «تفجير» الخلافات الطائفية هو بمثابة فتح صندوق «باندورا»، صندوق الشرور التي أُخرجت من قمقمها التاريخي وزُج بها في أتون الصراعات السياسية الحاضرة، بأدوات داخلية وخارجية، حتى خرجت عن السيطرة وتفشّت في كامل المجتمعات العربية مهددةً بحرق الأخضر واليابس.
إننا لنشعر بالأسى، ونحن نتابع أخبار الحروب والصراعات في بلدان العرب التي يذكيها وقود التعصب المذهبي، لاسيما في سوريا ولبنان واليمن والعراق. لكن ما يقلقنا أكثر، هو محاولات البعض الدوؤبة في استجرار النعرات الطائفية إلى مهاجرنا حول العالم، ولاسيما المهجر العربي الأميركي في ميشيغن، من أجل تحقيق مصالح شخصية وفئوية ضيقة. وهذا النوع من السلوكيات غير المسؤولة، هو بلا شك، لعب بالنار التي إن اتسعت وخرجت عن السيطرة، فسوف تحرق أصابع الجميع!
وفي مجتمع جاليتنا العربية في منطقة ديترويت، لم يتورع البعض عن استغلال المشاعر المذهبية، المشحونة سلفاً، في النزاعات المحلية والانتخابية، حتى وصل الأمر بهؤلاء الى اتهام صحيفة «صدى الوطن» وناشرها الزميل أسامة السبلاني بالطائفية في إطار مساعيهم الى تحقيق مصالح شخصية ضيّقة تتغذى على مشاعر الانتقام والحقد.
اليوم يتهم البعض السبلاني ومعه «صدى الوطن» بمعاداة الطائفة السنية الكريمة والتحيّز ضدها، في محاولة بائسة لتعزيز الشروخ المذهبية ضمن جاليتنا وإذكاء مشاعر الكراهية بين أبنائها لتحقيق أهداف تافهة وقصيرة النظر..
ومن المؤكد أن مثل هذه الادعاءات الرخيصة والمتهافتة، لا تتعدى الأطماع بتحقيق بعض المكاسب الآنية وتسجيل النقاط على مواقع التواصل الاجتماعي دون أي اكتراث بتمدد نيران الطائفية التي تهدد البقية الباقية المتماسكة من مجتمعنا العربي الأميركي الذي تعصف به الأهوال والأخطار العديدة، من كل حدب وصوب.
اتهام «صدى الوطن» بالطائفية ليس تكتيكاً جديداً نختبره لأول مرة. وإذا كان موقفنا الداعم لصمود الدولة السورية والمعارض للعدوان السعودي على اليمن قد وضعنا اليوم في قفص الاتهام بـ«معاداة السنة»، فإننا سبق وأن اتهمنا بالعداء للشيعة بسبب موقفنا الرافض لغزو العراق (٢٠٠٣) وانتقادنا لتبعات بعض الطقوس الدينية التي يمارسها أبناء المذهب الشيعي في منطقة ديترويت، وغير ذلك من الاتهامات الطائفية الخاوية.
إن «صدى الوطن» منذ انطلاقتها الأولى، قبل أكثر من ثلاثة عقود، ملتزمة بنهج علماني عروبي، لا يقيم للتمايزات الدينية والمذهبية والإثنية أي اعتبار في معالجة الأزمات التي تعصف بالشعوب العربية في البلدان الأم ودول الاغتراب.
ونحن ندرك جيداً أن مواقفنا السياسية حول مجمل القضايا قد لا تروق للكثيرين من أبناء الجالية، لكن ذلك لم يثننا يوماً عن قول كلمة الحق حتى لو كلفنا ذلك التعرض الى حملات تحريض سافرة وخسائر مادية كبيرة بحجب العقود الإعلانية الضخمة كما حصل إبان غزو العراق.
ولا شك أن مواقفنا قد لا تتوافق مع مواقف جميع العرب الأميركيين لاسيما وأنهم منقسمون حيال العديد من القضايا، وهذا أمر مفهوم ومقبول، فأبناء الأسرة الواحدة قد يختلفون في تصوراتهم ومواقفهم إزاء ما يجري من أحداث وصراعات في الشرق الأوسط مثلاً.
وهنا نؤكد بأن رسالة «صدى الوطن» القائمة على ترسيخ وتفعيل الحضور العربي في أميركا، تلزمنا بفتح صفحاتنا لجميع الآراء والمواقف المخالفة لمواقف الصحيفة، شرط خلوها من التحريض الديني أو الإثني، وتوفرها على المواصفات المهنية والأخلاقية.
أوقات عصيبة
بعيداً عن الموت والدمار والتحريض الذي يعصف بالأوطان الأم، تقع على عاتق العرب في الولايات المتحدة مسؤولية أخلاقية في الارتقاء فوق الانقسامات وتشكيل مثال ناصع عن التضامن الجماعي والنجاح الذي قد يوفر مثالاً واضحاً عن رقينا الحضاري وإيماننا بالتنوع والتعايش السلمي والأخوي، لاسيما وأننا -في هذه البلاد- نتعرض جميعا لمخاطر تتهدد وجودنا ومستقبلنا وصورتنا الثقافية والدينية.
وفي أتون هذه المحنة الصعبة، من البديهي القول إن وحدة العرب والمسلمين الأميركيين أمر حتمي من أجل انقاذ مجتمعاتهم وحمايتها من الانحلال والتفكك الذي تغذيّه الأحقاد والتناحرات الشخصية والجماعية.
نحن لا نقول ذلك بهدف تحقيق مكاسب شعبية، فوحدة الجالية العربية ليست شعاراً نرفعه في موسم انتخابي للفوز بمنصب هنا أو وظيفة هناك، وإنما لإيماننا بهويتنا ورسالتنا الحضارية التي حملناها معنا من خلف البحار وزرعناها في بلاد العم سام بعرقنا وجهدنا فأنبتت إنجازات لا يمكن أن ينكرها أي مُنصف، رغم كل المطبات التي لا تزال تعيقنا.
ومن بين هؤلاء صنّاع الإسلاموفوبيا وثقافة العنصرية ممن لا يقيمون أي وزن للتنوع الأصيل لدى العرب والمسلمين الأميركيين. ففي الأسبوع الماضي، أقدم أحد المتعصبين على اغتيال إمام مسجد ومساعده في مدينة نيويورك (تفاصيل ص ١٤). كما أقدم موتور أميركي أبيض، في مدينة تلسا بولاية أوكلاهوما على قتل جاره، اللبناني المسيحي خالد جبارة، الذي كان كل ذنبه، بحسب توصيف القاتل المريض، بأنه «عربي قذر» (تفاصيل ص ١٢).
فقد تحرش القاتل فيرنون مايجرز بعائلة جبارة لسنوات، وقد فشلت الشرطة في حماية هذه العائلة العربية من أحقاد هذا القاتل المتعصب الذي سبق أن سجن بعد محاولة دهس والدة الضحية، هيفاء جبارة، في العام الماضي قبل أن يطلق سراحه لاحقاً ليرتكب الأسبوع الماضي جريمته الشنيعة بدم بارد.. مدفوعاً بنار الجهل والكراهية.
لو لم يكن الضحية عربياً والقاتل أبيض، لكان الجاني لا يزال خلف القضبان ولكان خالد لا يزال على قيد الحياة.
إن مسيحية عائلة جبارة لم تشفع لها عند قاتل ابنها، ولا لدى السلطات، التي باتت بدورها تتأثر بتداعيات موجة الكراهية والتحيز ضد العرب، سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين.
ومن المفارقات، أنه في الوقت الذي يستهدف فيه العنف العرب والمسلمين في الولايات المتحدة، فإن المسؤولين الفدراليين يبذلون قصارى جهودهم لإيجاد أكباش فداء من جالياتنا، حيث تشهد أروقة المحكمة الفدرالية في ديترويت قضيتين تحملان من الرمزية ما لا يمكن تجاهله.
فقد قام مخبرون يعملون لصالح «مكتب التحقيقات الفدرالي» (أف بي آي) باستدراج شابين ساذجين ودفعهما للتلفّظ بعبارات قد تؤدي الى تجريمهما بتهم الإرهاب رغم خلو سيرتَيهما من الشبهات الإرهابية.
المفارقة هي أن أحد الشابين شيعي، فيما الآخر سني، وكلاهما عربي.
هذا المشهد عميق الدلالة، ينبغي أن يكون بمثابة جرس إنذار لجاليتنا كي يدرك أبناؤها ضرورة التعالي على الحساسيات المذهبية والتورّع عن التصعيد الطائفي، وأن يدركوا أيضاً -عن سابق فهم وتصميم- بأن لا بديل عن الوحدة والترفع عن الخلافات لكي يتمكنوا من مواجهة العنصرية والكراهية التي تستهدفهم جميعاً.
Leave a Reply