محمد العزير
حمل العدد 1845 من «صدى الوطن»، الصادر بتاريخ 19 حزيران 2021، على ثلاث صفحات، خبراً مفصلاً وافتتاحية تعبّر عن رأي الصحيفة كمؤسسة. يقول عنوان الخبر «وقفة وحدوية في ديربورن رفضاً لإثارة النعرات المذهبية في الجالية العربية». ويقول عنوان الافتتاحية «وحدة الجالية هي رهاننا الأول والأخير». ولأن للصدف محاسن، كما يقال، أو بالأحرى أن للدنيا «نكد على الأحرار»، شاءت الأقدار أن يكون على العرب الأميركيين في المدينة التي يتباهون بأنها عاصمة العرب في أميركا، وفي منتصف السنة الأولى من العقد الثالث في القرن الحادي والعشرين، أن يرتدّوا خمسة عشر قرناً في التاريخ ليتفادوا راهناً، خلافاً بين أبناء العمومة في قريش، قبيلة النبي العربي، الذي آل إرثه إلى أحفاد آخر سيفين رُفعا في وجهه؛ سيف أبي سفيان الأموي وسيف العباس الهاشمي. كلاهما أوغلا في دم أحفاد محمد، وكلاهما فتح باب الأحقاد القومية والإقليمية والعائلية التي جعلت من المظلومية ظلامة لا تقل عن نهج دولتي الحكم.
ولا تقتصر المحاسن ولا ينتهي النكد عند المسلمين (سواء كانوا مؤمنين أو لا… والـ«لا» هي الأكثر) بل على العرب الأميركيين أن يضيفوا إلى ارتدادهم المحمدي ارتداداً إبراهيمياً ثانياً ليبتّوا في العالم الجديد، الذي لجأوا إليه طمعاً بحياة أفضل وقمع أقل، إن كان عيسى بن مريم صُلب أو «شُبّه لهم». ولولا صهيونية تيودور هرتزل (السيء الذكر) لكان على العرب الأميركيين أن يبحثوا عن هيكل سليمان ويفندوا مزامير داوود «الزبورية»، لكن نشوء الكيان الصهيوني أعفاهم من مهمة شاقة وحولها إلى قضية وطنية قومية لا غبار عليها لأنها اقتلعت اليهود العرب من مجتمعاتهم وفتحت عيون «الضباط الأحرار… والجشعين» على أملاك وقصور ومزارع لم يميز بينها الناصري والبعثي أو الوطني الحاف، من عبد الحكيم عامر في قاهرة المعز، إلى علي حسن خليل في وادي أبو جميل (مع حفظ الألقاب).
لماذا على العرب الأميركيين وهم ينهضون للتو من تحت وطأة النظام الفاشي الوقح، الذي قاده المعتوه دونالد ترامب لأربع سنوات، أن يجيبوا على أسئلة بدائية، قبلية ومذهبية؟
الجواب بسيط لمن شاء، ومحرُج لمن لا يريد. إنه سيادة المؤسسات الدينية التي بينها وبين الإيمان مسافات ضوئية. مؤسسات تقوم على الطقوس والطاعة والتعصب… المسلم السني عرضة لضخ متواصل من السلفية إلى الإخوانية إلى القرضاوية (القرضاوي بالمناسبة تكلّف على زفاف حفيده أكثر مما يعيل مدينة مسلمة كبيرة)، هذا إن نجا من الأحباش والصوفاش والأردوغانياش. يحلو لإسماعيل هنية، «قائد غزة» أن يظهر على الـ«سي أن أن» بطقم «فيرزاتشي»، وأن يؤم صلاة الجمعة بعباءة خليجية المصدر.
والمسلم الشيعي عرضة لولاية الفقيه التي لم تسمع بها (شيعة علي) إلا في القرن العشرين. ثلاثة عشر قرناً منذ الغيبة الكبرى، ولم تكن ولاية الفقيه واردة في التراث الشيعي، جعفرياً كان أو فاطمياً، زيدياً كان أو علوياً. فجأة ودون مقدمات صارت ولاية الفقيه هي المقياس ومن لا يتبناها، وإن كان مرجعاً، فهو منبوذ (وتحرق كتبه في سهرات نار علنية كما حصل مع السيد محمد حسين فضل الله)، والبديل الجاهز شيرازية طقوسية تلامس الهوس بجلد الذات.
إنها سيادة المؤسسات الدينية المعروفة بالأسماء والعناوين. لفات وطرابيش وقلنسوات، شيبات، أو صبغات… المشايخ يحبون الصبغات… تزلّف يأنف له الدجل، حياء مصطنع مستورد من علب الليل لأناس يعرفهم القاصي والداني. رجال دين (رجال بالمعنى البيولوجي لا الاعتباري)، منهم من يقتات على النساء الباحثات عن حل لحياة «زوجية» مذلة، ومنهم من يعتقد أن الجبة نفي للمثلية الفاقعة… ومنهم من يرى في الله مصدر رزق شخصي لا أكثر. هذه هي حالتنا، الحقيقة مؤلمة، لكن يجب أن تقال. رجل الدين الذي يريد استعادة مشهدية السبي الزينبي في ديربورن، وعلى شارع رئيسي لا يمكن أن يكون أقل من مجرم. والآية الله الذي يفتي له بأحقية ذلك، وهو مرعوب من طليق زوجته الجديدة غير المعروف رقمها في سجله الشخصي، والذي تتمحور فتاويه حول الجنس والفتنة، والشيخ المقاتل لزواج المتعة بالإسم والمحلل لزواج المسيار للشيوخ الزائرين للجالية، والقسيس الذي لا يمكنه تحليل الطلاق لأن الرب منعه… لكن لا بأس بمداعبة الأبونا وإرضائه وإرضاعه حتى يتفكر في حل مقبول.
ليت القصص تبقى في إطار شخصي، لكان رجال الدين أعفونا من هم كبير. لكن تغطية «السماوات بالقبوات» تقتضي التحريض الطائفي والتجييش المذهبي وإبقاء جذوة الفتنة متقّدة في نفوس تجتمع في معظمها الغالب، الأمية (ثنائية اللغة) وأبسط بديهيات الثقافة الدينية، ولا تجد فيما يفترض أنها بيوت الله إلّا الشحن والتعصب ودعوات التبرع. ليس في العرب الأميركيين رجل دين مستور مالياً أو فقير الحال (رحم الله الشيخ خليل بزي والإمام محمد جواد شري والمونسنيور فغالي، ورحم أيامهم). قلة من رجال الدين العرب الأميركيين لا تجمع بين التجارة والطقوس الدينية، والأقل من لا يمتلك البيوت والسيارات الفخمة، وهذا يتطلب موارد مالية «ساخطة» لإن الإيمان وحده لا يغني ولا يسمن.
هؤلاء ومؤسساتهم التي تفرد صفوفها الأولى دون حرج لنصابين ودجالين ولصوص معروفين وتجار خمور ومحرمات، ومنذ أن استفردوا بالعرب الأميركيين بعد الكارثة الإرهابية في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول عام 2001، هم مصدر ترويج التعصب في الجالية، ومن خلالهم وعبرهم تتسرب الضغائن والأحقاد إلى نفوس المؤمنين بهم والمصدقين لدعاويهم، فهم البوابة الأولى لعبور بدائيات الوطن الأم إلى الاغتراب، وهم مكبر صوت الفتن وأبواق التبرير والتكفير بلا وازع من ضمير وبلا وعي لمصلحة عامة. لولاهم لما كانت «تغريدة» لشخص طائش تحتاج إلى تضافر الجهود لمنع الاقتتال، ولولاهم لما كان مشروع بناء مقر ديني ليتحول إلى حرب طائفية معلنة بين جماعتين كبيرتين من العرب الأميركيين، ولولاهم لما صار عراك بين مرضى في عيادة طبية من الأحداث المشهودة في ديربورن، ولولا تشجيعهم الموارب ودهقناتهم لما وجد الطائشون والحمقى وأصحاب الرؤوس الحامية مصادر للتعصب ولا منصات للتشجيع.
جميل ما بادرت إليه الفعاليات العربية الأميركية الأسبوع قبل الماضي، حين تداعت إلى وقفة علنية لتمنع شرخاً جديداً على الفالق المذهبي النشط في ديربورن، وجميل ما بادر إليه بعض المعنيين قبل أشهر قليلة لرأب صدع محتمل على الفالق الإقليمي الأنشط في منطقة ديترويت. العالمون بالحال يعرفون أن الكثير لا يزال ينطمس أو يكنس إلى تحت السجادة، وأن الكثير من الغسيل الوسخ لا ينشر، لكن المعيب، المعيب حقاً، أن المسؤولين المباشرين عن تنمية الأحقاد وبعض الطامحين سياسياً أو تجارياً يتوارون عند الجد وكأنهم يريدون تعميم الانقسامات لتبقى مواقعهم محصّنة ومرجعيتهم مضمونة.
برأيي المتواضع وغير الملزم، على الجادين من نخب الجالية الذين يضطرون كل مرة إلى لعب دور الإطفائي أن يبدأوا بمعالجة المشكلة في مصدرها. كفى تبجيلاً للفّات والقلنسوات والجبب، وكفى تجهيلاً للفاعل. عليهم أن يبدأوا بسحب البساط من تحت أقدام المؤسسات الدينية وأصحابها وأن تكون محاسبة كل مؤسسة قائمة على دورها وخدماتها، وليس على العنوان فقط.
Leave a Reply