محمد العزير
نسمع في نقد السياسيين لازمة تتكرر على الدوام عن معادلة المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، لكن نادراً ما تستند تلك المعادلة الى حالة واضحة لا لبس فيها، يمكن للناقد أن يدرجها سنداً حاسماً لشكواه أو للمُنتقد أن يردها عنه بجلاء. تكمن صعوبة البت بذلك، في التداخل التلقائي بين الشخصي والعام عندما يتخذ قرار يؤثر في مصالح الناس وشؤونهم. إلا أن ظروفنا، كمجتمع عربي اميركي يتلمس طريقه نحو الحضور المعنوي والتفاعل السياسي، تشاء أن تجود علينا بمثال واضح يكاد يقارب بداهة التمييز بين الأسود والأبيض، وليس فيه مساحة رمادية تواري الحقيقة. المثال هو رئيسة المجلس البلدي في مدينة ديربون سوزان دباجة.
في المبدأ، من حق سوزان دباجة، شأنها شأن اية مواطنة أميركية ان تترشح لأي منصب أو ان تمتهن اية وظيفة. وفي المبدأ أيضاً أن لسوزان دباجة الحق شأنها شأن أية امرأة أو رجل أن ترتب اولوياتها الأسرية والعملية والمالية بما يناسبها. الا ان هذا المبدأ لا ينفي الإعتبارات المهمة التي تحيط بتطبيقه، ولا يلغي المفاعيل التي تترتب على ممارسته، وهذا ما يكون أكثر الحاحاً ورجحاناً عندما يتعلق الأمر بالشأن العام، وعندما يكون مرتبطاً بمن يشغل موقعاً عاماً بالإنتخاب، ويطغى في اهميته عندما يكون المجال العام المعني به مجتمع حديث التكوين، كثير القضايا، قليل الموارد، متشعب الأهداف مثل المجتمع العربي الأميركي، تحديداً في مدينة مثل ديربورن، بما لها من خصوصية ورمزية.
سوزان دباجة شابة موهوبة ونشيطة وجادة، تمكنت بمثابرتها وشجاعتها من كتابة فصل باهر في تاريخ العرب الأميركيين في ديربورن، ليس فقط بانتخابها لعضوية المجلس البلدي، الذي لا يزال رهين اعتبارات معقدة ليست بريئة من شبهة التمييز والتحامل ضد العرب الأميركيين، لكن باكتسابها اكبر عدد من الأصوات ما جعلها تحل تلقائياً في رئاسة المجلس. بالطبع لم تكن السيدة دباجة لتحقق هذه النتيجة الممتازة لولا الدعم شبه الكامل من العرب الأميركيين أفراداً ومتطوعين ومؤسسات، وهو دعم مستحق يلائم دورها وحضورها بين ناخبيها، وتبنيها لقضاياهم وتجسيدها لآمالهم.
لم يمر هذا الإنجاز بلا اهتمام مناسب. فقد احتفى العرب الأميركيون به فيما بينهم واوصلوا صوتهم المرحّب الى محيطهم والى الإعلام الأميركي. كانت الأكثرية، إن لم نقل الكل، تعتبر ذلك الإنتصار لها. كان المعنيون والنشطاء يتعاملون معه وكأنه لهم. لم يقصر أحد في التعبير عن صلته بالحدث، في سياق نجح، وربما للمرة الأولى في تاريخ العرب الأميركيين بالمدينة، في تنزيه تلك الحالة من الرواسب العائلية والجهوية والإقليمية التي كانت ولا تزال تطل برأسها في المناسبات الشبيهة.
لكن، وكأن هذه الـ«لكن» قدر يجب ان يعكر صفو العرب الأميركيين، وقبل أن تتم فرحة الفوز، وقبل أن تترك سوزان دباجة بصمتها في المجلس البلدي لواحدة من اغنى واهم ضواحي ديترويت، فوجئ المعنيون بقرار دباجة الترشح لمنصب قاضية في مدينة ديربورن، في انتخابات حساسة من شأنها اذا تمت كما ينبغي، ان تعزز الحضور العربي الأميركي أكثر وتعكس على نحو أفضل، الوجود الفاعل لهم في أروقة القرارات المتعلقة بحياتهم اليومية ومستقبل اولادهم. وما زاد من المفاجأة وجود المرشحة العربية الأميركية المؤهلة والكفوءة آبي بزي، التي لم يكن ترشيحها سراً، بل كانت أول من أعلن عن ترشحه للمنصب.
يقول المدافعون عن قرار ترشح سوزان دباجة، وينقل عنها من التقوها شخصياً لمعرفة ملايسات ترشحها، أن موقفها بسيط وواضح: هي تريد ان تصبح قاضية لأن راتب القاضي أكبر باضعاف من راتب عضو المجلس البلدي، ولأن الدوام القضائي مناسب لها كأم لأطفال لا يزالون في سن يحتاجون فيه الى الرعاية… وهنا بالضبط يبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود في الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية. لا تجد سوزان دباجة غضاضة في أن تتنحى عن رئاسة المجلس البلدي وهو أعلى منصب منتخب لعربي أميركي في المدينة، وأن تفتح الباب امام احتمالات انتخابية غير مضمونة النتائج، وان تفتح معركة انتخابية شرسة في أوساط العرب الأميركيين، وأن تجدد شباب حساسيات شخصية وعائلية بين أهلها، وان تشتت الصوت العربي الأميركي في الإنتخابات القضائية مع احتمال عدم وصولها أو وصول آبي بزي أو أي عربي أميركي للمنصب، فقط لأن الراتب أكبر والدوام أفضل.
لا ينقص سوزان دباجة الذكاء أو الفطنة. هي لم تكتشف حجم الراتب بعد انتخابها، وبالطبع لم تصبح أماً السنة الماضية، ولم تتعرف الى متطلبات الأمومة مؤخراً. ليس التخمين في سبب قرارها صائباً، إلا أن ذلك لا يمنع من القول انه قرار خاطئ. والواضح أن الضرر من هذا القرار لن يقف على اتخاذه والمعاندة في التراجع عنه. وبعيداً عن التأويلات وأحاديث الأسباب الكيدية فيه، يتضح أن سوزان دباجة قررت عن سابق تصور وتصميم ان تنسف بيدها الصورة الإيجابية التي جهدت لسنوات في بنائها وكافأها العرب الأميركيون عليها بسخاء وثقة.
يقتضي المنطق أن تطرح سوزان دباجة على نفسها أولاً وعلى المقربين منها ثانياً سؤالاً بسيطاً: كيف تحول مناصروها ومؤيدوها وداعموها فجأة الى اعداء، كيف صارت الماكينة الإنتخابية، التي كانت بالأمس مصدراً للإيجابية والتواصل، مصدراً للشقاق والشائعات والإتهامات الصريحة أو المغلفة ضد الذين وقفوا معها بصدق من العرب الأميركيين فقط لأنهم لا يوافقون على قرارها الأناني؟ كيف تسمح لنفسها أن تتحول من نجمة عربية اميركية واعدة وجامعة الى رمز لأسوأ معركة انتخابية منذ ترشيح المحامي جمال حمود لعضوية المجلس البلدي في أواخر الثمانينات؟ من يتذكر؟
هذا الكلام يجب أن يقال بهدوء وصدق لسوزان دباجة، ومن محاسن الصدف اني بعيد جغرافياً وسياسياً ومعنوياً عن ديربورن الى درجة تسمح لي بقول ذلك دون غرضية ودون مصلحة، مع توضيح ضروري وهو اني لا اعرف سوزان دباجة ولا آبي بزي ولا من يعمل معهما أو من يشارك في حملتيهما الإنتخابية، لكن الشأن العام يتطلب أن يبدي الإنسان رأيه وهذا اضعف الإيمان.
Leave a Reply