محمد العزير
تختزل مدينة ديربورن في ولاية ميشيغن إلى حد كبير مسيرة العرب الأميركيين في العالم الجديد، وتمثل بجميع المعايير والمواصفات أنموذجاً مكثفاً لوجود وكفاح ومعاناة آلاف العائلات المهاجرة في موجات متعاقبة من لبنان وفلسطين والعراق واليمن وسوريا من كل الأديان والمذاهب والأطياف، دون أن يؤثر اختلاف النِسَب والأعداد في الصورة الأكبر، وتحفظ في ذاكرتها، التي تفتأ تتشكل، مراحل تحوّل العرب الأميركيين من مجموعة عائلات مهمشة تعيش تحت ظلال مداخن مصانع شركة «فورد» في الحي الجنوبي شبه المعزول عن المدينة (منطقة ديكس) إلى القوة الديمغرافية المحركة للمدينة والتي أعادت الحياة إلى شوارعها ومدارسها وأحيائها بعدما كانت تعاني من موت بطيء عندما بدأ النزوح الأبيض من ديترويت إلى الضواحي الأبعد والأقل اختلاطاً وتنوعاً.
ومع الأخذ بعين الاعتبار المقتضيات الرومانسية للحلم الأميركي، لم تكن طريق العرب الأميركيين التي أوصلتهم أخيراً عبر صناديق الاقتراع إلى بعض مواقع القرار، سهلة أو مفروشة بالورود. كان على مهاجري الموجة الثالثة الذين قادهم سعيهم وراء لقمة العيش والحياة الكريمة والمستقبل الأفضل للأولاد إلى جوار مصانع السيارات وتوابعها والتي ازدهرت بشكل هائل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أن يواجهوا الطبقة السياسية في أكثر مدينة عنصرية في الغرب الأوسط، وكانت المواجهة حقيقية في ستينيات القرن الماضي، عندما قررت بلدية أكبر مهرّج في أميركا (على حد تعبير مجلة «لايف» الأميركية) أورفيل هابرد، التعسف في استخدام القانون لترحيل العائلات العربية من منطقة ديكس من خلال تغيير التصنيف العقاري للمنطقة.
مع النمو المضطرد للعرب الأميركيين في المنطقة، اكتشفت النخب العنصرية في ديربورن أن تركيزها على منع السود واليهود واللاتينيين من السكن في المدينة سمح للعرب بالـ«تسلل» إلى الحي الجنوبي وإنعاشه ديمغرافياً بعدما تركه معظم السكان البيض غير المغضوب عليهم (ذوي الأصول الإيطالية والأوروبية الشرقية). تفتقت مخيلة إدارة هابرد عن حيلة «شرعية» بالتواطؤ مع إدارة مصنع الروج لتصنيف المنطقة عقارياً كمنطقة صناعية، وترحيل السكان بعد دفعهم أو إجبارهم على بيع بيوتهم بأسعار بخسة. انتبه البعض إلى مرامي اللعبة المكشوفة وقررت عائلة أمين (أسرة الناشطين المعروفين رون وآلن أمين) رفع قضية قضائية ضد البلدية وربحتها عام 1973، وواصلت السير فيها لعشر سنوات من الاستئناف والتمييز اللذين سلكتهما البلدية دون جدوى، وحسمت المعركة القانونية لصالح العرب الأميركيين صيف العام 1983.
ستستغرق رحلة بلوغ العرب الأميركيين مرحلة الاعتراف العملي بوجودهم حوالي خمسين سنة، تدفقت خلالها آلاف العائلات اللبنانية والفلسطينية واليمنية والعراقية والعربية الأخرى إلى المدينة وانطلقت من «غيتو ديكس» إلى جميع أحياء المدينة وخصوصاً القسم الشرقي منها والذي أحياه العرب الأميركيون ديمغرافياً واقتصادياً وتربوياً ومؤسسياً ليتحولوا إلى أكبر مصدر للضريبة في المدينة بعد شركة «فورد»، وليشكلوا الكتلة السكانية الإثنية الأكبر فيها، ويقلبوا السياق العددي السائد في ديترويت ومحيطها من نزيف متواصل إلى نمو موصوف (ارتفع عدد سكان المدينة بفضل العرب من أقل من 90 ألفاً في إحصاء عام 1990 إلى حوالي 110 لاف نسمة عام 2020)… وأخيراً تمت ترجمة هذا النمو في الانتخابات المحلية التي أوصلت العرب الأميركيين إلى مواقع القرار بجدارة وكفاءة السنة الماضية.
لا بد من هذا التمهيد المطوّل للدخول في صلب الموضوع. على الرغم من طول السنين ومن التجارب الكثيرة والخبرة المتراكمة لأكثر من جيلين، وعلى الرغم من دخول الشباب والصبايا أميركيي المولد الميدان بثقة وثبات، لا تزال هناك شريحة من العرب الأميركيين من مختلف دول الهجرة تصر على مباشرة العمل العام من منطلق دوني فيه الكثير من احتقار النفس والخجل من الهوية والتذلل لمن تفترضه «الأصيل» و«صاحب الحق»… في هذه الحالة يعني الأبيض الأوروبي الأصل.
هذه الظاهرة ليست حكراً على العرب الأميركيين. فقد أطلق السود قبلنا، على هذه الفئة من أبناء جلدتهم، لقب «العم طوم» Uncle Tom وهذا ما ضاعفه ذوو الأصل اللاتيني فأعطوا لقبين «العم خوان» Tio Juan و«بوتشو» Pocho. يتميز هذا النوع من الأشخاص عادة بنرجسية مفرطة ويعانون من عقدة نقص تجعلهم يخجلون من ماضيهم وأهلهم وناسهم، ويضعون أنفسهم مجاناً في خدمة الثقافة السائدة، لا بل يشنّعون على مجتمعهم، ويتصرف وكأنه وحده الملمّ بالشأن العام والمطلع على خفايا الأمور والقريب من مركز القرار.
عندما قرر هابرد ترحيل العرب من ديربورن تطوع بعض العرب ممن لهم أسبقية زمنية في الهجرة (باعتبار أنهم يعرفون البلد أكثر) ولهم وظائف قديمة نسبياً ومعرفة ببعض الموظفين العموميين من أجل إقناع سكان ديكس من أبناء جلدتهم بيع بيوتهم بسرعة قبل أن تتهاوى الأسعار، نصحوهم بالتجاوب مع البلدية حتى لا تغضب عليهم وتدفع لهم أقل، وأعربوا عن استعدادهم لـ«التوسط» مع «أصدقائهم الأميركان» لإنجاز العملية بسرعة. لم يكن ذلك الظهور الأول لهذه الشخصيات، لكنه كان النشاط الأشمل الذي جمعها لتظهر كشريحة طفيلية تعتاش على قلق الناس ومخاوفهم. كانوا قبل ذلك معروفين بالمفرق، يدعون أمجاداً غير مستحقة من خلال إرشاد طالبي العمل إلى المصانع التي تعلن حاجتها إلى عمّال، فيترجمون ذلك بمفهوم الوطن الأم «واسطة» ولا يتورعون عن قبول الـ«هدايا». كانت علامتهم الفارقة محاربة أي عمل مؤسسي سواء كان دينياً أو اجتماعياً، وشخصنة الأمور على مقاسهم.
عرفت النخب المهيمنة في المدينة كيف توظف هؤلاء الطفيليين، وحولتهم إلى «أكواع» للتواصل بين الناس وبين حقوقهم المكتسبة وخدماتهم البديهية. صار تسجيل طالب في الثانوية «مكرمة» والحصول على فرصة عمل في سوقٍ عطشى إلى اليد العاملة غير المدربة «إنجازاً»، وشراء بوليصة تأمين «خدمة»، أما رخص قيادة السيارة وفتح حسابات مصرفية فتتطلب عناية شبه إلهية! لعبوا دورهم بنشاط وشغف وعرفوا كيف يلمعون صورهم ولو كان ذلك باستضافة موظف صغير إلى مآدبهم أو التقاط صورة في مكتب حكومي، والأفضل أن تكون مع أي مسؤول.
ومع أن الأيام تجاوزتهم فعلياً وتمكن المهاجرون الحريصون على تأمين حياة كريمة من بناء المؤسسات والأندية، بقي الطفيليون على الشاشة بفضل حرص النخب المهيمنة، وخصوصاً في البلدية، على إدامة خدماتهم والتشويش على أية مؤسسة أو مبادرة تنمّي من قدرات العرب الأميركيين وتساهم في تمكينهم.
المؤسف أنه ورغم ضمور دور هؤلاء الطفيليين لا يزالون مصرين على تقديم أنفسهم كحالة وتقديم خدماتهم إلى الذين لا يزالون يتقبلون التعازي بوفاة هابرد، رغم إزالة صنمه من الأماكن العامة. ومن لا يصدق ذلك، عليه أن يراجع ما حصل ويحصل في قضية تعريب الأدبيات الانتخابية في ديربورن وهامترامك، حيث يتصدون لهذا الإنجاز الرمزي الهام للعرب الأميركيين ويستعينون بمن هب ودب لمنع الناخب العربي الأميركي من مطالعة تعليمات الاقتراع ولوائح المرشحين ومشاريع الاستفتاء بلغته الأم.
آن لمن تبقى من هذه الشريحة –التي لم يكن لها حاجة في الأساس– أن يتقاعد، بعد أن أعفتنا العناية الإلهية وديمقراطية الموت من أسلافهم. آن لهؤلاء الأنانيين أن يرتاحوا ويريحوا… فالعرب الأميركيون –وكما ثبت بالدليل الحسي وبالرؤية الشرعية– بلغوا سن الرشد ولم يعودوا بحاجة إلى «أكواع» نرجسية تعتاش على الأوهام ومركبات النقص والاستلاب.
Leave a Reply