من يراجع التصريحات التي لم يتورع رئيس بلدية ديربورن الأسبق، الراحل أورفيل هابرد، عن إطلاقها بحق الأفارقة الأميركيين إبان فتره حكمه القياسية (36 سنة)، تنتابه الصدمة من مدى وقاحة وعنصرية ذلك الرجل البدين الذي تعهّد بالوقوف سداً منيعاً في وجه السود والحفاظ على نقاء ديربورن العرقي و«نظافتها».
ولكن اليوم الصدمة تتضاعف بعد القرار الشائن الذي اتخذه مسؤولو البلدية بإعادة نصب التمثال في الباحة الأمامية لمتحف ديربورن التاريخي غرب المدينة متجاهلين بذلك مبدأ معروفاً وبسيطاً، وهو أن المجتمعات والشعوب تفخر بالمحطات المضيئة في تاريخها، وتخصص الساحات العامة لإقامة النصب التذكارية لقادتها وأعلامها ورموزها، لا مجانينها ومتعصبيها وموتوريها..
قد يقول قائل إن تلك التصريحات تعبر عن زمنها الماضي، ولكن التمثال –الذي أزيل من أمام المبنى السابق للبلدية في 2015 وتم تخزينه في أحد المستودعات لمدة 17 شهراً– عاد ليظهر قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات البلدية، ليعيد النقاش حول موقف إدارة المدينة الحقيقي حيال إرث هذا الرجل الذي لم يكن يتوانى يوماً عن إهانة وتحقير السود ومعاملتهم بعنصرية فاقعة جعلته رمزاً من رموز دعاة الفصل العنصري في خضم حركة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين.
لم تقتصر كراهية هابرد على السود، فالعرب أيضاً لم ينجوا من تعليقاته العنصرية، مع أنهم كانوا يشكلون أقلية ضئيلة في تلك الأيام، وقد قال هابرد «يقولون إن اليهود يملكون البلد، والإيرلنديون يديرونه والعبيد يستمتعون للغاية، وبعض الناس.. (العرب) هم أسوأ من العبيد».
ولو قيض لهابرد أن يكون على قيد الحياة وأن يكون في منصب رئاسة البلدية، فكيف سيكون موقفه من العرب والمسلمين الذين باتوا يشكلون حوالي نصف سكان المدينة التي أراد لها هابرد أن تكون مدينة للبيض فقط؟
التمثال أزيل من أمام مبنى البلدية السابق الذي تم بيعه في شرق ديربورن المهمش، ليظهر اليوم في غربها الذي يستعد لمشاريع تطويرية بملايين الدولارات من أموال المدينة.
كما أن التمثال نفسه خضع لصيانة وتحسينات بكلفة قاربت سبعة آلاف دولار، سوف تدفع من خزينة ديربورن، أي من جيوب دافعي الضرائب من سكان المدينة، والذين –للمفارقة– هم بمعظمهم من خلفيات لم يتردد هابرد يوماً عن تحقيرها.
أما الأنكى، فهو تبرير المسؤولين في المدينة إعادة نصب التمثال بأنه لم يتناه إلى مسامعهم وجود شكاوى حول الموضوع، وكأن الأمر يحتاج إلى توضيحات ورسوم بيانية، فيما هو واضح بما لا يدع مجالاً للشك بأنه لا مكان لتمثال هابرد تحت شمس ديربورن التي تشهد اليوم تنوعاً إثنياً وعرقياً مميزاً، يشكل فيه العرب والمسلمون حضوراً وازناً حمى المدينة خلال السنوات الأخيرة من مخاطر أزمة اقتصادية طاحنة خلّفت آثارها العميقة على معظم المدن الأميركية.
ديربورن –وبفضل دور الجالية العربية– تشهد اليوم ازدهارا وأمانا يضعها في المرتبة 14 بين المدن الأميركية (فوق 50 ألف نسمة)، بحسب ما قال قائد شرطة المدينة رونالد حداد في إحدى المناسبات الاجتماعية، الأسبوع الماضي.
ومن ناحية أخرى، إن تاريخ هابرد، أو «ديكتاوتور ديربورن» الذي حكم المدينة بقبضة حديدية خلال حقبة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي –وليس في منتصف القرن التاسع عشر حين كان نظام العبودية والفصل العنصري نظاما معمولاً به في الولايات المتحدة– لا يمكن محوه عبر القول بأن تصريحات هابرد كانت حال لسان عصره، بل في الواقع كان –وعن سبق إصرار وترصد– على الجانب الخاطئ من التاريخ لأنه كان من بين رموز التيار الأميركي المناهض لحركة الحقوق المدنية التي خلدها التاريخ الأميركي، فيما يجب على مدينة ديربورن ألا تخلد سيرة هذا الرجل بنصب تمثاله في مكان عام، بل في قلب «الداونتاون» الغربي الذي تعول عليه إدارة ديربورن الحالية كثيراً –إلى جانب استثمارات شركة «فورد»– لإعادة تشكيل وجه المدينة، بعيداً عن «السمعة العاطلة» بأنها عاصمة العرب الأميركيين.
صحيح أن الرجل طوّر المدينة واهتم بشوارعها ومرافقها ومنشآتها العامة، ولكن ذلك لا يبرر في أي حال من الأحوال تمجيد خطاب العنصرية لاسيما في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلاد. لأن الاحتفال بتاريخ هابرد، يعني احتفالا بسياساته ومواقفه العنصرية بما يمثل امتهانا لشرائح واسعة من سكان المدينة الذين يعانون أيضاً من شتى أنواع التهميش، لاسيما القاطنين في شرق ديربورن.
وإذا كان ينبغي فعل شيء للتسامح مع تلك العقود البغيضة لحكم هابرد، فأقل شيء يمكن فعله.. هو دفن التمثال في المستودع إلى الأبد، أو التبرع به لأحد المتاحف المتخصصة بتاريخ العبودية.
Leave a Reply