كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يكن رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون موفقاً فـي طرحه «الفدرالية» ودمجها «بحقوق المسيحيين»، ردّاً على رفض الأخذ بمطالبه السياسية المحقة التي تعني انتخابه رئيساً للجمهورية كممثل عن المسيحيين من خلال «تكتله النيابي» الذي يضم 23 نائباً منهم 21 مسيحياً، بموازاة ما يحصل مع طوائف أخرى التي تسمي الممثل الأقوى، إضافة الى الإستئثار بالوظائف وهو ما يحصل فـي ظل نظام المحاصصة الطائفـية السياسية.
ورغم تراجع العماد عون عن طرحه «الفدرالية»، أو توضيح ما قصده، بأنها خيار مفروض عليه، ولا يمكن أن تتحقق إلا بإجماع اللبنانيين، فإنه ووفق حلفاء له مثل النائب سليمان فرنجية و«حزب الله» وقوى أخرى، اعتبروا أنه ارتكب خطأ استراتيجياً، وقد تمّ تخفـيف ما صدر عنه بالإشارة الى أنه ربما كانت «زلة لسان منه»، كما برّر له رئيس «تيار المردة»، وهذا ما فرمل رئيس «تكتل الإصلاح والتغيير» الذي تذكّر البعض أنه تأثّر بمرحلة من حياته بفكر سعيد عقل «اللبناني الفـينيقي»، وتطرف الى حد تبني طروحات «التنظيم» الذي كان يترأسه النائب الحالي جورج عدوان، وغالى فـي «عنصريته» ضد الفلسطينيين الى حد التحالف المبكر مع العدو الإسرائيلي، إضافة الى ما كان يقدم من طروحات ترفض التعايش مع المسلمين. وليس طرح «الفدرالية» أو«الكونفدرالية» أو «اللامركزية الإدارية الموسعة»، أو «اللامركزية السياسية»، إلا صيغ تكشف عن أن ما اصطلح على تسميته «ميثاق العيش المشترك» الذي تم تركيب دولة لبنان عليه كنظام سياسي، كان ترتيباً مرحلياً بين دعاة الوحدة العربية، وطلاب الإنتماء الى الغرب، وتطل طروحات التقسيم أو الإنفصال أو رفض الشراكة مع كل أزمة سياسية ودستورية يولّدها النظام الطائفـي الذي من دون الوصول الى حل لإلغائه وإسقاطه، فإن الشعب اللبناني مهدّد دائماً بحروب أهلية واقتتال بين طوائفه ومذاهبه، وترفع شعارات «الكانتونات الطائفـية».
ويبرّر أصحاب طرح «الفدرالية»، ما جرى فـي دول حصلت فـيها صراعات طائفـية أو مذهبية وعرقية ولغوية، فكان «الحل السلمي» هو إنفصال كل مجموعة وإنشاء «كانتون» لها كما فـي سويسرا، وإقامة إدارة ذاتية لشؤونها، والإبقاء على دولة مركزية كما فـي الولايات المتحدة الأميركية حيث إتّحد الشمال والجنوب تحت سلطة «فدرالية» واحدة، وأعطيت الولايات إدارات أو سلطات ذاتية.
ففـي لبنان الذي نشأ ككيان سياسي فـي العام 1920، وبإرادة استعمارية فرنسية، فإن نظامه السياسي لم يؤمن وجوده واستمراره، إذ كانت طوائفه مرتبطة دائماً بالخارج لتامين الحماية لها وتتبع مشاريع خارجية، وتلتزم بمحاور إقليمية ودولية، فكانت «صيغة العيش المشترك» تهتز وتكاد تسقط، كما حصل فـي العام 1958، ثمّ فـي الأعوام 1967 و1975 و1982 و2005، إذ كان التهديد بالإنفصال الداخلي يتقدّم دائماً على دعاة الوحدة الوطنية، لاسيما ما يتعلق منه بموقع لبنان السياسي والإستراتيجي، مع هذا المحور السياسي أو ذاك، كما هو الوضع اليوم، إذ ينقسم اللبنانيون بين محورين إيراني يمثله «حزب الله» وحلفاؤه، وسعودي يمثله «تيار المستقبل» وحلفاؤه، واتخذ هذا التموضع طابعاً مذهبياً لما يرمز إليه المحوران واستقطابهما الداخلي بين الشيعة والسُّنة، وزاد على ذلك ما يحدث فـي سوريا التي توزّع اللبنانيون حول أزمتها بين مؤيّد للنظام ويقاتل الى جانبه كـ «حزب الله»، وداعم للمعارضة السورية «كتيار المستقبل»، وكاد هذا الوضع الإنقسامي أن يفجّر لبنان، لولا قرار دولي – إقليمي بإبقاء الإستقرار فـيه، ومنع الحريق المجاور من أن يمتد إليه، لكن هذا لا يمنع من أن التطورات فـي سوريا والمنطقة، التي لا يعرف أحد إلى أين ستصل، من أن يدفع بالأوضاع اللبنانية الداخلية الى الإنفجار، مع الحديث عن دويلات طائفـية ستنشأ، هي النسخة الأولى لإتفاقية سايكس – بيكو التي جزأت بلاد الشام الى كيانات طائفـية، لكن واضعي خارطة التقسيم فشلو بتنفـيذها، بسبب الرفض الشعبي الذي تجلى بالوعي الوطني والقومي لها، وتصديه لمنع حصولها.
من هنا جاء طرح العماد عون لـ«الفدرالية» مع إعلان رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل عن «الإتحاد الفدرالي» المستند الى مشروع سياسي قدمه سابقاً باسم «لبناننا»، أي لكم «لبنانكم ولنا لبناننا»، وهذا يصب فـي طرح مؤسس «القوات اللبنانية» بشير الجميّل حول حدود «الدولة المسيحية» من جسر كفرشيما الى المدفون، والذي كان عون من عداد «فريقه الحربي» باسم حركي «رعد»، وهو ما تحدث عنه الرئيس أمين الجميّل وقيادات فـي «القوات اللبنانية»، حيث أعاد البعض التذكير بتلك المرحلة، فـي إشارة الى الخلفـية الفكرية والسياسية لطرح رئيس «التيار الوطني الحر» فـي هذا الظرف الدقيق الذي تطرح فـيه مشاريع تقسيم الشرق الأوسط، وتركيبه من جديد، وفق نظرية «المحافظون الجدد» فـي أميركا والتي إستند إليهم الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش فـي سياسة إدارته للمنطقة عندما طرح «الفوضى الخلاقة» للمنطقة لإعادة رسمها وفق خارطة «الشرق الأوسط الجديد»، وقد بدأ تنفـيذها فـي العراق عندما استصدرت الإدارة الأميركية بعد احتلاله دستوراً فدرالياً فـي زمن الحاكم الأميركي له راين برايمر.
والعماد عون الذي انقلب على طروحاته السابقة، وتحوّل الى صاحب دعوة «للمسيحية المشرقية» للتأكيد على ارتباط المسيحيين بالمشرق العربي، وأن تهجيرهم منه هو سياسة أميركية – صهيونية، فاجأ حلفاءه كما الرأي العام اللبناني، بما تقدّم به بشأن «الفدرالية»، ورأوا فـي هذا الطرح تقديم خدمة لأصحاب الطروحات والمشاريع الطائفـية ومنها «القوات اللبنانية» التي لم تتراجع عن فكرها السياسي والعقائدي حول «الكيان المسيحي»، وإن كان رئيسها سمير جعجع إنكفأ عن هذا الطرح ليلاقي «تيار المستقبل» بشعار «لبنان أولاً»، الذي يعتبره جعجع مكسباً سياسياً، وهو أن الطرف السياسي السُّني فـي لبنان يعترف به أولاً، قبل العروبة ويقدمه عليها، بعد أن كانت هي المطلب الأول لأهل السُّنة فـي التأكيد على عروبة لبنان، التي كانت مرفوضة من فريق «الإنعزال اللبناني»، الذي بات اليوم ليس أمام «إسلام عروبي»، بل يواجه «إسلام إقصائي وتكفـيري» تمثله «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» ومن يبايعهما، كبديل عن العروبة التي خوّف منها دعاة «الإنعزالية اللبنانية».
«فالفدرالية» صيغة سياسية طائفـية دستورية، قد تناسب بعض الدول، وقد لا تناسبها، ولبنان جرب أثناء الحرب الأهلية، أن يعيش كل مكوّن فـيه فـي منطقة جغرافـية، ودفع اللبنانيون ثمنا مئات آلاف القتلى والجرحى، وتدمير للبلدات والمدن، وتهجّر عشرات الآلاف من منازلهم، لترسم حدود «الدويلات الطائفـية»، لكنها سقطت، وإن تركت آثاراً سلبية على وحدة اللبنانيين مازالت تتفاعل، بسبب عدم إلغاء الطائفـية، ليقع لبنان بمذهبية قاتلة، قد تشتعل نارها فـي أية لحظة.
لذلك فإن العماد عون المتقدم بطرحه الوطني والقومي، والذي يؤكد يومياً أنه مشرقي الإنتماء، فهو أعلن أن ما طرحه حول «الفدرالية» قد أُجبر عليه عندما رأى الشريك فـي الوطن وهو المسلم السّني الذي يمثله كأكثرية نيابية «تيار المستقبل»، يقطع عليه الطريق للوصول الى رئاسة الجمهورية كممثل قوي لدى المسيحيين، ولا يعترف الرئيس سعد الحريري به ويجاريه ايضا النائب وليد جنبلاط، ويصمت الرئيس نبيه برّي، لأن ما يرغبون به أن لا يكون رئيساً للجمهورية مَن يملك الحيثية السياسية والشعبية، أو صاحب قرار، بحيث يستهويهم نموذج الرئيس ميشال سليمان لا شخصية العماد إميل لحود الذي عارض رفـيق الحريري وصوله الى رئاسة الجمهورية ثم قبل به، ولم ينتخبه جنبلاط وظل يعارضه لأن تجربة لحود فـي قيادة الجيش كانت برفض تدخل السياسيين فـي المؤسسة العسكرية وتنفـيذ المحاصصة السياسية فـيها.
ومنذ أن عاد الى لبنان فـي العام 2005، شكّل العماد عون قلقاً لدى الطبقة السياسية، إذ شبّهه جنبلاط بـ «التسونامي»، ورفضت قوى 14 آذار التحالف معه إنتخابياً، وهو ما أعطاه دفعاً أوصله الى أن يمثل 70 بالمئة من المسيحيين، ووصفه البطريرك الماروني نصرالله صفـير، بأنه الزعيم المسيحي الأقوى، فتمّ إقصاؤه عن الحكومة الأولى بعد الإنتخابات برئاسة فؤاد السنيورة، ليستمر تهميشه على حساب تقوية وتعزيز وجود خصومه من القوى المسيحية «كالقوات اللبنانية» وحزب الكتائب وشخصيات مسيحية فـي 14 آذار، لإرتباط هؤلاء بمشروع سياسي، تقدمه أميركا وحلفاء لها من أنظمة عربية، فـي مواجهة ورقة تفاهم أعلنها العماد عون مع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، تؤيّد المقاومة، وهذا هو المقتل السياسي لعون بحسب خصومه، وهذا ما يمنع وصوله الى رئاسة الجمهورية، وتعزيز حضوره فـي مؤسسات الدولة، لأنه وبحسب 14 آذار وحلفائهم الخارجيين يخدم المشروع الإيراني فـي المنطقة، وهو مرفوض منهم.
ولم يكن ما رمى إليه العماد عون سوى طرح البحث فـي إتفاق الطائف الذي لايتم الإلتزام به، فـي تحديد معنى الشراكة التي وردت فـي مقدمة الدستور والفقرة (ي) منه، التي تحدثت عن أن لا شرعية لأي سلطة، إذا لم تتمثل فـيها مكونات المجتمع الطائفـية، وهو ما يشعر الطوائف دائماً بأنها مغبونة أو محرومة أو محبطة، وقد دق العماد عون جرس الإنذار، ليعي الجميع خطورة ما يجري، وأن رئاسة الجمهورية التي يطمح إليها منذ ما يقارب من ثلاثة عقود، ومنعته الظروف الإقليمية والدولية منها، يرى هو أن اللبنانيين يمكن أن يصنعوها هم، وربما للمرة الأولى، إذا إتفقت القوى السياسية فـيما بينها، فكان حواره مع الرئيس سعد الحريري، وقطع أشواطاً متقدمة، وأعلن إتفاق نوايا مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وانفتح على النائب وليد جنبلاط لتعزيز المصالحة فـي الجبل، لكنه لم يلقَ التجاوب والتعاون، فسقط الدعم عنه، وتعطّلت إنتخابات رئاسة الجمهورية، فرفع عون شعار الشراكة أو «الفدرالية»، ليجد نفسه محاصراً من حلفائه برفضهم لها، كما أن المسيحيين ليسوا فـي هذا المناخ، والمنطقة من حولهم تحترق ووجودهم فـيها يتقلص الى حد الإنقراض، ولم يعد إلا لبنان هم فـيه على رأس دولته، وفـي مواقع القرار، فتلقى عون إتصالات داخلية، أولها من البطريركية المارونية، ألتي حذرته من طرح «الفدرالية» ومن ثم من النائب فرنجية الذي نبّهه من الإنتحار، ولم يكن الفاتيكان مرحباً، بل دعا للحفاظ على الوجود المسيحي، ومثله فعلت دول أوروبية، أن لا يفتح هذا الباب الذي قد يغلق على المسيحيين ويعزلهم فتراجع عن طرحه حتى موعد لاحق.
Leave a Reply