للمرة الأولى منذ أن بدأ مسلسل تفجير السيارات المفخخة منذ تموز الماضي مع متفجرة بئر العبد ثم الرويس في آب الماضي، ثم تفجيري مسجدي الإسلام والتقوى في طرابلس في الشهر نفسه يحصل تفجير انتحاري مزدوج استهدف السفارة الإيرانية في لبنان، بمنطقة الجناح في أحد ضواحي بيروت الجنوبية، وكان انتحاري يدعى «أبو عدس» فجّر نفسه في موكب الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وقد بثّ شريط مصوّر يظهره فيه ويعلن أنه كان في سيارة «الفان» التي انفجرت.
مسعفون ينقلون جثة متفحمة أمام مبنى السفارة الإيرانية في بيروت. (رويترز) |
ما حدث في تفجير السفارة الإيرانية الذي أصاب سورها الخارجي، ولم يتمكّن الإنتحاريون من دخول المبنى بسبب الإجراءات الأمنية، أن مَن نفّذوا العملية وهم من «كتائب عبدالله عزام» التابعة لتنظيم «القاعدة»، حوّلوا لبنان الى «أرض جهاد» لا «أرض نصرة»، وهو القرار الذي اتخذه رئيس التنظيم بعد مقتل أسامة بن لادن، أيمن الظواهري، في العام 2006، ومع توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف ذلك العام، و صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي والذي أوقف العمليات العسكرية بين العدو الإسرائيلي والمقاومة، ولم ينهِ الحرب، فأعلن الظواهري أن «القوات الدولية» التي أسماها بـ«القوات الصليبية» هي هدفاً لتنظيمه، وكذلك «حزب الله» الذي وصفه بـ«حارس الحدود الإسرائيلية»، وقد قامت «كتائب عبدالله عزام» بعمليات عسكرية استهدفت القوات الدولية، كما أطلقت صواريخ بإتجاه فلسطين المحتلة لإحراج المقاومة، وفي الوقت نفسه، ظهر تنظيم «فتح الإسلام» بقيادة شاكر العبسي الذي انتمى الى تنظيم «القاعدة» مع أبي صعب الزرقاوي في العراق، وانتقل الى لبنان لإقامة «إمارة إسلامية» في الشمال، وان الوصول إليها يكون بقتال الجيش اللبناني الذي تمّ نعته بـ«الجيش الصليبي» لأن قائده «نصراني-ماروني»، وقد تمّت تصفية ضباط وجنود من الجيش في أثناء نومهم بعملية غادرة، نتجت عنها معارك مخيم نهر البارد.
فتنظيم «القاعدة» موجود في لبنان وله خلاياه ومنظماته، وهو موجود في الكثير من المناطق اللبنانية، وفي المخيمات الفلسطينية، وهو الاكثر انتشاراً ونفوذاً في مخيم عين الحلوة الذي منه انطلقت مجموعات «جند الشام» الى مخيم نهر البارد وخاضت معركة ضد الجيش دامت ثلاثة أشهر انتهت بإندحار «فتح الإسلام».
ومع إعلان «كتائب عبدالله عزام» مسؤوليتها عن تفجير السفارة الإيرانية، بعملية انتحارية مزدوجة، فإن المشهد العراقي ظهر في أوضح صوره، ومثله التفجيرات التي تحصل في سوريا، بحيث تحوّل البلدان الى «العرقنة» من خلال عمليات التفجير التي حصدت في العراق نحو ألف قتيل وآلاف الجرحى الشهر الماضي، وقد تبنّتها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وهي الجناح العراقي لتنظيم «القاعدة» الذي يرأسه «أبو بكر البغدادي» الذي مدّ نفوذه الى سوريا واصطدم بـ«جبهة النصرة» التي يقودها «أبو محمد الجولاني» الذي رفض الإنضمام الى «داعش» وحصلت اشتباكات بين المجموعتين تدخل الظواهري، ليطلب من البغدادي ترك الشام للجولاني، لكنه لم يستجب له، لأنه يريد إقامة «الخلافة الإسلامية» في بلاد الشام، ولبنان من ضمنها.
أما لماذا استهداف السفارة الإيرانية، بعد أن كان متوقعاً أن تكون مجالس عاشوراء هي هدف «التكفيريين» لان الإجراءات الأمنية حالت دونهم، فكان الهدف في التدابير الأمنية «الرخوة» للسفارة في منطقة الجناح في محلة الأوزاعي، وهي محاطة بسور عالٍ وبمداخل محصنة بأبواب حديدية، إضافة الى حواجز إسمنتية تحيط بالشوارع المحاذية لمنع وقوف السيارات، إضافة الى حراس دائمين وكاميرات مراقبة، حيث كانت الخطة أن يتم تفجير أحد أبواب مداخل السفارة، لتدخله السيارة المحملة بكمية التفجيرات التي قدرت بحوالي خمسين كيلوغراماً من المواد الشديدة الإنفجار، لتنفجر داخل السفارة، إلاّ أن حراسها تنبّهوا لذلك ومنعوا الإنتحاري من الإقتراب من مدخل السفارة، وأطلقت النار عليه فقُتل وانفجر الحزام الناسف الذي يحمله وتمّ تفجير السيارة بعيداً عن المبنى لتستهدف المدنيين العابرين بسياراتهم وسكان الأبنية المحيطة، حيث سقط عشرات القتلى والجرحى اضافة الى خمسة من حراس السفارة من اللبنانيين والمستشار الثقافي.
والرسالة كانت واضحة لإيران التي تقدم الدعم للنظام السوري، وتساهم مع «حزب الله» في تحقيق الجيش السوري تقدماً في الميدان، حيث أسقط معاقل للمسلحين في الغوطة الشرقية وفصلها عن الغوطة الغربية، وقطع خطوط الإمداد عنها، وأوقع مخيم اليرموك والحجر الأسود والقابون في حصار وباتت مناطق بحكم الساقطة عسكرياً، وهو ما أربك الجماعات المسلحة التكفيرية في سوريا، التي بدأت تتراجع في ريف دمشق عند جبال القلمون، فسقطت بلدة قارّة الإستراتيجية وانفتحت الطريق الى يبرود والنبك، وهذه المعركة تحرر طريق دمشق-حمص الدولية من وجود المسلحين، ويبسط الجيش السوري سيطرته عليها، ويقطع خطوط تدفق المسلحين والسلاح من لبنان عبر عرسال المتاخمة للحدود السورية، والتي باتت مقراً وممراً لـ«القاعدة» إذ حذّر وزير الدفاع فايز غصن قبل عامين من وجودها في عرسال والخطر الذي سيصيب لبنان منها، وقد أظهرت التحقيقات الأمنية والقضائية مع أفراد ومجموعات وقعوا في قبضة مخابرات الجيش، أن هؤلاء ينتمون الى «جبهة النصرة» وهم قاموا بقتل عناصر من الجيش اللبناني، وبتفخيخ سيارات، تمّ تفجير اثنين منها في الضاحية الجنوبية، وأن أشخاصاً من عرسال مشاركون في مثل هذه الأعمال الإجرامية باشتراك مع مجموعات سلفية سورية وفلسطينية ومن جنسيات عربية.
فمعركة القلمون التي كانت متوقعة بعد معركة القصير في ريف حمص، وارجئت بقرار إقليمي-دولي، وقد ساهمت روسيا في تأجيلها، لإفساح المجال أمام انعقاد مؤتمر «جنيف-2»، لكن المسلحين استفادوا من الهدنة ليقوموا بهجوم على دمشق، لكنهم فشلوا، وأخذ الجيش السوري المبادرة فبدأ عملية تحرير الغوطة الشرقية، وفي الوقت نفسه استعاد مناطق استراتيجية في حلب، فاسترجع «السفيرة» وأمّن طريق الإمداد للجيش على الطريق الدولية من حماه واقترب من مطار حلب، في وقت كانت المجموعات المسلحة تتقاتل فيما بينها على النفوذ والسيطرة وكسب المغانم، وقد بدأت تتحوّل البيئة الشعبية من حاضنة لما يسمّى «ثورة» الى لافظة لها مع ما شهده المواطنون من ممارسات استبدادية وارتكابات من المجموعات المسلحة وتحوّل مجرمين وساقطين من المواطنية الى أمراء لجماعات إسلامية، وقادة لكتائب عسكرية يتسلطون على المواطنين
وهذه التطورات السورية لجهة تراجع العدوان الخارجي على سوريا وتحديداً الأميركي تحت ذريعة استخدام النظام للسلاح الكيميائي، وفتح باب الحل السياسي عبر مؤتمر «جنيف -2» بمشاركة النظام وبعدم تنحي الرئيس بشار الأسد، حيث أغضب ذلك المعارضة ومَن يدعمها من دول خارجية وتحديداً فرنسا والسعودية، وقد أربكهما أيضاً الحوار الأميركي-الإيراني، ثم المفاوضات على البرنامج النووي الإيراني بين دول 5+1 وإيران، إذ أن هذه التطورات عززت الدور الإقليمي لإيران، وأبقت النظام السوري في موقع المفاوض القوي، لا بل ثمّة قناعة غربية أنه يخوض حرباً ضد «الإرهاب» الذي تشن عليه أميركا نفس الحرب وأيضاً فرنسا ومثلهما روسيا والصين وبعض الدول العربية، حيث رفضت إسرائيل أي اتفاق أميركي-إيراني يلغي دورها كمخفر أمامي لأميركا كما كان يقال، كما يهمش دور السعودية في المنطقة على حساب نفوذ وتمدّد إيراني ستكون له ارتداداته في العالم العربي وتحديداً في الخليج.
وكان الرد على ما أحرزه المحور السوري-الإيراني وتحالفه مع «حزب الله» في لبنان وحكومة نوري المالكي في العراق، بسلسلة عمليات تفجير تزعزع هذا المحور، فكان العراق ومازال ساحة للمجموعات التكفيرية لتقوم بأعمالها، ولبنان الساحة الثانية، حيث فجّرت سيارتين في الضاحية الجنوبية، في بيئة «حزب الله» إضافة الى قصف مناطق في بعلبك والهرمل بالصواريخ، وزرع عبوات ناسفة على الطرقات، وجاء التفجير أمام السفارة الإيرانية ليكمل الهجوم على هذا المحور.
وقد استهدفت السفارة في بيروت ليكون لها الفعل المباشر، عبر إيصال رسالة واضحة بأن يمتنع «حزب الله» وإيران عن «استهداف أهل السّنّة في سوريا» كما يقول «القاعديون» الذين اعلنوا في بيانهم مسؤوليتهم عن التفجير في السفارة الإيرانية وأن مَن قام بالعملية هما لبنانيان من أهل السّنّة، من أجل توظيف ذلك في إثارة التقاتل المذهبي، ولدعوة السّنّة الى الإنضمام الى «كتائب عبدالله عزام» وما يشابهها التي هي وحدها مَن ينصر أهل السّنّة ويدفع عنهم الظلم الذي يمارسه “الشيعة” (الروافض) عليهم، وهو الخطاب نفسه الذي يعلو في العراق، كما يتم تسعيره في سوريا، بأن «أقلية علوية تحكم أكثرية سنّيّة»، ويؤتى بالسّنّة من العالم لمساندة إخوانهم في سوريا والعراق ولبنان.
إن التفجير الذي استهدف السفارة الإيرانية في بيروت، وسّع الصراع على لبنان الذي بات في قلب الحريق السوري، وأن فتح معركة القلمون هي بدايات انعكاسها على لبنان الذي وبعد معركة القُصَير بدأ مسلسل القصف والتفجير عليه وهو يستكمل مع معركة القلمون التي هي معركة إقفال الحدود مع لبنان الذي إذا ربح الجيش السوري معركته هذه بوجه التكفيريين، فإن ساحة جديدة ستخسرها المعارضة السورية وداعموها من قوى لبنانية وأخرى عربية ودولية واكبر الخاسرين السعودية وسيكون «حزب الله» وحلفاؤه في موقع القوة، ولن يستجدوا بعدها من قوى «14 آذار» تشكيل حكومة، أو إعطاء شرعية للمقاومة وسلاحها، وهي لم تطلبها من أحد كما قال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير بذكرى عاشوراء، عندما دعا «تيار المستقبل» ومن ورائه السعودية أن يقرأوا جيداً التطورات في سوريا والمتغيّرات في المشهد الإقليمي والتحوّلات في الوضع الدولي، وأن لبنان لن يكون ساحة صراع عليه لأن القول الفصل هو لمن يثبت في المعركة ويربح…
Leave a Reply