دخلت أزمة مرسوم ترقية ضباط من دورة عام 1994، أسبوعها الرابع دون الوصول إلى حل لها، إذ استفحل الخلاف بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، وتحوّل إلى سجال في الإعلام بدأ يتحدث عن الميثاقية واحترام الدستور والتطرق إلى الصلاحيات التي تخص هذا الموقع الرسمي أو ذاك، وصولاً إلى المساس بحقوق الطوائف.
تطبيق الطائف
وانتقل الكلام حول تطبيق اتفاق الطائف الذي أنهى مرحلة دستورية في لبنان تعود إلى دستور العام 1926 الذي جرى تعديله عام 1943، لينتج دستوراً جديداً بعد الحرب الأهلية أحدث تغييرات في بنية النظام السياسي، في عملية إصلاح تحت سقف الطائفية التي من المفترض إلغاؤها.
الطائف قام بتحديد صلاحيات رئيس الجمهورية التي كانت قبل الطائف مطلقة، ليتم تقييدها بمواد دستورية منها إلزامية الاستشارات النيابية كتسمية رئيس الحكومة وعدم حل مجلس النواب إلا وفق شروط محددة، وداخل مجلس الوزراء، ثمّ توقيع المراسيم والقوانين بمهل إلخ…
كما أناط الطائف ودستوره، السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء، وأعطت المادة 54 من الدستور حق التوقيع لوزير المال على المراسيم مع الوزير المختص ورئيسي الجمهورية والحكومة، وهو ما لم يحصل في مرسوم الأقدمية، إذ استبعد وزير المال علي حسن خليل عن التوقيع، لأنه وبحسب رئيس الجمهورية لا يرتب هذا المرسوم نفقات مالية، وهو ما يدحضه الرئيس برّي الذي يشير إلى أن كل تعديل في الرتبة سيلحقه تعديل في الراتب.
التوقيع الشيعي
ولا يقف رئيس مجلس النواب عند التوقيع التقني لوزير المال، بل عند الجانب الميثاقي الذي فرض الدستور أن يحضر توقيعه، وأن التساهل الذي حصل بعد اتفاق الطائف، بأن لا يكون وزير المال شيعياً، فلا يعني التخلي عن هذا الموقع الذي بات عُرفاً أن يكون للطائفة الشيعية، لضمان توقيعها على المراسيم والقوانين، وهو ما ورد في نصوص محاضر اتفاق الطائف، والذي اتفق خلال الاجتماعات أن تكون وزارة المال من حصة الشيعة في أي تشكيلة حكومية، حيث تولاها الوزيران علي الخليل وأسعد ذياب، ليتولاها الرئيس رفيق الحريري عند تأليف حكومته الأولى نهاية عام 1992 تحت شعار أن إسمه يحصّن الاستقرار النقدي بعد انهيار سعر الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، وتجاوز سعر الدولار ثلاثة آلاف ليرة، وخسر المودعون بالليرة اللبنانية حينها مدخراتهم.
المثالثة
الطائفة الشيعية التي حققت إنجازات في الطائف، كما الطائفة السنّيّة التي تحسنت صلاحياتها من خلال رئاسة الحكومة، فإن الرئيس برّي قصد من معارضة توقيع مرسوم الأقدمية لضباط، هو عدم التفريط بحق فرضه العُرف الذي أعاد رئيس مجلس النواب العمل به في وزارة المال، بما يضمن المثالثة في السلطة. وهو الطرح الذي تقدّم به «الثنائي الشيعي» (حركة أمل وحزب الله) في فترة ما بعد العام 2005، بحيث تكون الطائفة الشيعية هي العامود الثالث في «سيبة» الحكم في لبنان، الذي لا يمكن أن يعود إلى حكم الثنائية المارونية–السنّيّة، التي أسقطتها الحروب، ومع صعود الطائفة الشيعية من طائفة محرومة إلى قوة أساسية للبنان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحريره منه، وهو ما فرضها رقماً صعباً في معادلة السلطة اللبنانية منذ ما بعد اتفاق الطائف، والتي عُرفت في مرحلة عهد الرئيس الياس الهراوي بـ «الترويكا»، والتي انحسرت مع عهد الرئيس إميل لحود، ثمّ عادت قبل أن تظهر مجدداً من خلال الدور الذي لعبه ومازال الرئيس برّي في إدارة حوار داخلي، أو إقامة توازن وطني.
إذا كانت «المثالثة» قد أُرجئت كطرح، بعد أن عُرضت في مؤتمر سان كلو في فرنسا الذي رعته باريس عبر وزير خارجيتها برنارد كوشنير عام 2007، تقدم المؤتمر التأسيسي الذي طرحه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، ووافقه عليه البطريرك الماروني بشارة الراعي، بعد أن ظهرت محاولات لإقصاء قوى سياسية عن المشاركة، إلا أن هذا الموضوع أرجئ أيضاً كي لا يدخل لبنان في أزمة بحث حول نظام سياسي أو إعادة النظر في اتفاق الطائف الذي لم يطبّق كاملاً وسط اللهيب الإقليمي المستعر، حيث طوت الأحداث التي اندلعت في بعض الدول العربية تحت مسمى «ربيع عربي» كل طروحات المثالثة والمؤتمر التأسيسي واتفاق الطائف.
أزمة نظام
فأزمة النظام السياسي قائمة، وقد ظهرت في أكثر من محطة سياسية، أو إشكالية دستورية تتعلق بتفسير الدستور أو مواد فيه، وكشفت أزمة المرسوم هذه الأزمة مجدداً، لاسيما بعد أن ظهرت ثنائية مارونية – سنّيّة، تم التعبير عنها من خلال تبادل الخدمات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، وعبر ترتيب يقوم به كل من رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، ونادر الحريري مدير مكتب الرئيس سعد الحريري ومستشاره، وهذا ما ترك توجساً لدى أطراف سياسية أخرى، حيث شارك رئيس الحكومة رئيس الجمهورية على توقيع مرسوم الضباط، دون الالتفات إلى توقيع وزير المال، إذ بدأ حديث يتم تداوله عن تنازلات يقدمها الحريري لرئيس الجمهورية، مما ينسف اتفاق الطائف الذي يحرص عليه رئيس الحكومة ويرفض المس به، لأنه أعطى صلاحيات لرئاسة الحكومة، إضافة إلى أي تعديل فيه لن يأتي لصالح الطائفة السنّيّة.
مارونية سياسية
وفتحت أزمة المرسوم على تناقل كلام وتداول أخبار عن عودة للمارونية السياسية، من خلال إظهار قوة رئيس الجمهورية الذي عاد يمارس صلاحياته، ولم يتطلع إلى توقيع وزير المال، ورأى في المادة 47 من قانون الدفاع، مخرجاً لمنح الأقدمية لضباط «دورة 94»، وهو بهذا المعنى يمارس دوره كرئيس للجمهورية الذي قيّده الدستور بمهلة للتوقيع على المراسيم والقوانين، وهو يعمل على إحداث تعديل يعزز من صلاحيات رئيس الجمهورية، وقد غمز الرئيس برّي من قناة الرئيس عون، أنه وقف ضد اتفاق الطائف، ولم يقبل به، وكأنه يوحي بأنه يحاول أن يعود إلى دستور ما قبل الطائف، حيث يرفض رئيس الجمهورية توجيه هذه التهمة السياسية إليه، لأنها تهدف إلى الإيقاع بينه وبين رئيس الحكومة، حيث يؤكّد الرئيس عون على أنه من أصحاب الدعوة إلى دولة مدنية وعلمانية، وهو بعيد عن الطائفية تفكيراً وممارسة، ويدعو إلى بدء العمل لإلغاء الطائفية وعلى مراحل، وأن تكون من محاولة للعمل على إلغاء المذهبية السياسية، بإسقاط الأعراف عن رئاسة السلطات، بحيث لا يكون رئيس الجمهورية مارونياً بل مسيحياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً ورئيس الحكومة سنّيّاً، بل إن الموقعين يكونان للمسلمين بكل مذاهبهم، وهذا ينطبق على وظائف الفئة الأولى.
الخروج من أزمة المرسوم
وأمام هذا التشعّب الذي أخذه المرسوم، والتداعيات التي بدأت تفرزه، لجهة عدم نشره في الجريدة الرسمية من قبل رئيس الحكومة، ثم عدم توقيع وزير المال على الترقيات التي استحقت منذ مطلع العام الحالي للمؤسسات العسكرية والأمنية، فإن الأزمة تراوح مكانها، وتزداد تعقيداً كل يوم مع صدور موقف من المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية ورد عليه من مكتب الإعلام في رئاسة مجلس النواب، وكان آخرها دعوة الرئيس عون المتضررين من المرسوم اللجوء إلى القضاء، ورفض الرئيس برّي له، واعتبار الدستور هو الحكم، وأن مجلس النواب هو صاحب الصلاحية في تفسير الدستور، فإن التباعد وقع بين الرئاستين الأولى والثانية، وأحرجت خلافاتهما الدستورية والقانونية، الحلفاء السياسيين لهما، حيث لم تنجح الوساطات في تقديم الحلول التي لا يمكن إبداعها سياسياً طالما أن كل من الجانبين له مطالعته القانونية والدستورية، ويقفان عندها، إلا أن الخلاف لم ينعكس سلباً على عمل الحكومة ولا على مصالحة أزمة الكهرباء التي اجتمع بشأنها وزيرا المال علي حسن خليل والطاقة سيزار أبي خليل، وهما في صلب أزمة المرسوم، لأن مصالح الناس تقدمت على خلافاتهما السياسية.
الاستحقاق الانتخابي
وفي ظل أزمة المرسوم الذي قد لا يلقى حلاً له في القريب العاجل، أو قد تنجح الاتصالات في إيجاد مخرج مناسب يحفظ حقوق وصلاحيات المتصارعين عليه، فإن البعض يتحدث عن أن في ما وراء الخلاف حول المرسوم، تدخل الانتخابات النيابية، والتي عكّرت في العام 2009 الأجواء بين الرئيسين عون وبرّي في جزين، إذ يصر رئيس حركة «أمل» أن تكون له حصة في المقاعد المسيحية في هذه الدائرة التي اندمجت مع صيدا، ويمكن للصوت الشيعي التفضيلي أن يساهم في هذه الدورة بتغيير النتائج، ولا بدّ «للتيار الوطني الحر»، أن يدرس ملفاته جيداً من جزين إلى جبيل وزحلة والبقاع الغربي–راشيا، وصولاً إلى بعلبك–الهرمل، ولا يمكنه الهمس، بأن بناء الدولة لا يمكن أن يتم بوجود رئيس مجلس نواب يدخل السوق ليبيع ويشتري، لأنه يكون يلعب في دائرة الخطر.
Leave a Reply