كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مضى عام على انعقاد مؤتمر «سيدر» الدولي في باريس الذي خُصّص لمساعدة لبنان وانتشاله من أزماته المالية والاقتصادية، إذ أخذت فرنسا على عاتقها استضافة المؤتمر في إطار اهتمامها التاريخي بهذا البلد، الذي انتدبت عليه قبل أكثر من قرن.
والمقررات التي اتّخذها المؤتمرون في باريس، لم يكون هدفها تأمين القروض والهبات للبنان فقط، بل دفع الحكومة اللبنانية إلى إجراء إصلاحات هيكلية، التي من دونها فإن الأموال التي سيوفرها «سيدر» ستكون عرضة للهدر وصفقات الفساد، فاشترطت الدول المشاركة في المؤتمر على أن يقوم لبنان بورشة إصلاحية تبدأ من القطاعات التي تسبب العجز المتفاقم في الخزينة، وأبرزها ملفا الكهرباء ورواتب موظفي القطاع العام الذين يقدر عددهم بحوالي 300 ألف، إضافة إلى الرواتب والمزايا الكبيرة التي يحصل عليها كبار الموظفين في المؤسسات الرسمية. فالمطلوب إذن هو تخفيض العجز في الموازنة بما يعادل 1 بالمئة سنوياً، ولمدة خمس سنوات.
استياء دولي
أدى تعثر تشكيل الحكومة بعد الانتخابات وعدم إقرار الموازنة المطلوبة، إلى تأخير إطلاق الإصلاحات التي فرضها «سيدر»، لينعكس ذلك سلباً على صورة لبنان أمام المجتمع الدولي، أو أقله الدول التي اجتمعت لمساعدته على الخروج من أزماته المالية والاقتصادية، حيث لم يبد المسؤولون اللبنانيون جدّية في التعاطي مع شروط المؤتمر الباريسي وهو الانطباع الذي خرج به الموفد الرئاسي الفرنسي السفير بيار دوكان المكلّف من الرئيس إيمانويل ماكرون، متابعة تنفيذ مقررات «سيدر»، إذ أثنى على تشكيل الحكومة أخيراً، لكنه طالبها بإقرار موازنة تظهر الجدية المطلوبة في التوجه الإصلاحي.
لم يكن السفير دوكان، وحيداً في تشكيكه بقدرة الحكومة على إجراء إصلاحات جذرية، بل أن نائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وأفريقيا فريد بلحاج، عبّر عن استيائه من تلكؤ الحكومة في البدء بالإصلاحات، وأعطى كل من دوكان وبلحاج، فترة سماح للبنان، لن تكون طويلة –حتى نهاية أيار (مايو) المقبل– للتأكيد على جديتها في إجراء إصلاحات، وتشجيع الدول على دعم لبنان والاستثمار فيه.
ويبدو أن مزيداً من التأخير لن يضع لبنان إلا على حافة الهاوية، وهو ما يحذّر منه كبار المسؤولين اللبنانين، وفي مقدمتهم الرؤساء الثلاثة ووزير المال إضافة إلى مختلف القيادات السياسية. إذ أن الكل شركاء في ما وصل إليه الوضع المالي في لبنان بسبب السياسات الخاطئة التي اتّبعت منذ انتهاء الحرب الأهلية مطلع التسعينيات، والتي اعتمدت على الاستدانة وتبنّاها الرئيس رفيق الحريري، حيث حذر أكثر من خبير اقتصادي ومالي من مخاطر تفاقم الدين العام وخدمته، ليتبيّن بعد 25 عاماً، بأن الدين قارب المئة مليار دولار –60 بالمئة منه خدمة دين و40 بالمئة تسديد عجز قطاع الكهرباء. وفي الواقع فإن الأموال المستثمرة في المشاريع، لم تتعدّ 6 أو 7 مليارات دولار من إجمالي الدين العام، حتى بات لبنان اليوم يعتبر دولة فاشلة على شفير الإفلاس، إذا لم يُسرع المسؤولون فيه إلى قرارات وصفها رئيس الحكومة سعد الحريري بالموجعة.
الإجراءات
ومع دق ناقوس الخطر المالي الذي يتهدّد الدولة اللبنانية، وصولاً إلى عدم قدرة الحكومة على دفع الرواتب والأجور، وهو ما بدأ يظهر في عدد من المؤسسات الرسمية، كالمستشفيات الحكومية والأساتذة المتعاقدين وموظفي وعمال البلديات، وقبلهم عمال الكهرباء والمياه وغيرهم من العاملين في المصالح المستقلة، مما جعل وزير المال علي حسن خليل، يعمل على الإسراع في تقديم الموازنة التي خفض فيها النفقات وأجرى عملية ترشيد لها، كما طرح مشروع قانون لخفض رواتب الرؤساء والوزراء والنواب الحاليين والسابقين نحو 50 بالمئة، كتدبير يطمئن اللبنانيين بأن التقشف سيبدأ من رأس الهرم، كما أن وقف الإنفاق سيلحق بجمعيات وهمية وأخرى لا جدوى من وجودها، إذ تبلغ النفقات عليها نحو 450 مليار ليرة سنوياً (300 مليون دولار)، وكذلك المهرجانات السياحية، والرواتب العالية في بعض المؤسسات العامة، فعلى سبيل المثال، يتقاضى حاكم مصرف لبنان نحو 45 مليون ليرة شهرياً ونوابه نحو 35 مليوناً، إضافة إلى أن كل يوم سفر لأحد منهم يكلّف ما بين 3 و5 ملايين ليرة، وكذلك هيئة قطاع النفط، إذ يبلغ راتب العضو فيها نحو 25 ألف دولار شهرياً، وكذلك في مؤسسات أخرى، ومنها الأسلاك العسكرية والأمنية، التي يحصل المنتمي إليها بدل تعويض ثلاث سنوات عن كل سنة، إضافة إلى راتب تقاعدي.
قرارات موجعة
وإزاء هذا الواقع المالي المأزوم، كان لا بدّ من تضمين الموازنة تخفيضاً في النفقات، بما يوازي تخفيض العجز بنسبة 2.5 بالمئة، وهو المطلوب دولياً في مؤتمر «سيدر». وهذه إشارة إيجابية أعلنها وزير المال الذي قدّم الموازنة إلى الحكومة، لتبدأ بمناقشتها ورفعها إلى مجلس النواب لإقرارها.
فالمطلوب على وجه السرعة استعادة الثقة الدولية بلبنان وعزمه على الإصلاح، ولو بقرارات موجعة، كي لا يسقط الهيكل على الجميع، حيث أن تخفيض العجز في الموازنة أمام الناتج المحلي، سيرفع من نسبة النمو، وسيزيد من حجم الاقتصاد بما يجذب الاستثمارات مجدداً إلى لبنان الذي تقدم لمؤتمر «سيدر» بحوالي 260 مشروعاً، تؤمن فرص عمل للبنانيين، كما للمقيمين على أرضه من عمال سوريين تحديداً.
محاربة الفساد
ومع تخفيض العجز في الموازنة، ووضع خطة لمعالجة ملف الكهرباء، تكون الحكومة قد أوقفت استنزاف الخزينة بنحو أكثر من ملياري دولار سنوياً، وتكون معركة الإصلاح قد فتحت فعلاً في مؤسسات الدولة، تحت شعار محاربة الفساد الذي يكبد الخزينة نحو أربعة مليارات دولار سنوياً، ابتداءً من الجمارك التي قرّر وزير المال إلغاء إعفاءات تمّ الحصول عليها سابقاً، وصولاً إلى التهرّب الضريبي على المداخيل والعقارات، حيث يتشارك في الفساد قضاة وأمنيون وعسكريون وموظفون وسماسرة معاملات.
وقد بوشر بالإصلاح في القضاء الذي أوقف وزير العدل فيه نحو عشرة قضاة عن العمل، وأحالهم إلى المجلس التأديبي للتحقيق معهم، وهو ما وصل إلى ضباط ورتباء وعناصر في قوى الأمن الداخلي وأجهزة أمنية أخرى، وكذلك لمحامين، ليتكشف حجم الفساد المعشِّش في إدارات الدولة، وهو ليس أمراً جديداً في لبنان الذي يعرف هذا الداء منذ الاستقلال، وكان كل رئيس جمهورية أو حكومة، يتعهّد سواء في خطاب القسم أو في البيانات الوزارية، باقتلاع الفساد، وقد حصلت محاولات في مختلف العهود، وتمّ تطهير القضاء والإدارة من الفاسدين، وبعضهم كان بسبب «الكيدية السياسية»، كما أن البعض منهم لم يحاسبوا بسبب الانتماءات السياسية والحزبية والطائفية أو الحمايات لهم، وهو ما يترك موضوع محاربة الفساد في لبنان، في تشكيك من قبل المواطنين، الذين سبق لهم أن شهدوا هذا «الفولكلور اللبناني»، وما لبث الفساد متحكماً بالبلاد.
فقد اعتاد اللبنانيون على أن تكون مكافحة الفساد موسمية وليست دائمة، إذ عادة ما تنتهي الحملة بعد إقالة أو طرد هذا الموظف أو ذاك، دون أن يتم تفعيل هيئات الرقابة للقيام بدورها كما يجب، حيث أن القضاء له الصلاحية الأولى في تطبيق القوانين، وعندما يدخل الفساد إلى جسمه، فإن تصحيح المسار وتحقيق الإصلاح يصبحان مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة، وهذا ما أثبتته الوقائع والتجارب غير الناجحة التي أفقدت اللبنانيين الثقة بإمكانية تحقيق إصلاح حقيقي.
يبقى القضاء هو الأساس، ومازالت كلمة رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل تتردّد، عندما سئل، هل القضاء في بريطانيا سليم؟ فكان الرد إيجاباً، فقال: لا تخافوا.
إذن، فهل لبنان أمام إصلاح دائم أم موسمي؟
Leave a Reply