تصفية حساب اقليمي مفتوح يطيح بالدولة
لم يكن لبنان يوما قريبا من حافة الحرب الأهلية منذ انتهائها مطلع التسعينات كما هو اليوم. لم يعد الانقسام مقتصرا على الاحزاب او الطوائف، بل تدنى الى مرحلة العائلات والعشائر. يمكن الجزم بأن اشتداد ظاهرة الاحداث الامنية الفردية التي تفشت في الأشهر القليلة الماضية لم يكن امرا عابرا، فقد اثبتت احداث الأيام الاخيرة ان مفهوم الدولة غير موجود في ذهن الشعب اللبناني بأغلبيته الساحقة.
وهكذا لم يعد للحديث عن الخلل في النظام السياسي مغزًى: ليست المشكلة في اتفاق الطائف، ولا في الخلاف حول كعكة السلطة، وليست في الدين العام والاقتصاد المهترئ نتيجة الفساد في الادارة، ولا في الظرف الاستثنائي الاقليمي او الفوضى السورية؛ بل إن المشكلة، كل المشكلة، في نظرة كل فرد الى الشكل النهائي لهذا الوطن.
مقاتل في حي باب التبانة في مدينة طرابلس خلف متراسه. (رويترز) |
امام هكذا واقع، لا يعود للكلام عن تفاصيل ما جرى او عن دلالات المواقف السياسية أهمية تُذكر، بعد ان تحولت الدولة في سرعة قياسية إلى ركام حقيقي تارة بفعل قوة النيران المتبدلة على محور “جبل محسن – باب التبانة” وتارة اخرى بفعل سهولة فعلة عمليات الخطف التي شملت مختلف الأراضي اللبنانية مستترة بحق آل المقداد في “الضيافة” ردا على إختطاف حسان المقداد على يد الجيش السوري الحر.
وبين الاشتباكات والخطف، كان مسلسل التفجير يتنقل بشكل احداث امنية بين البقاع والمخيمات الفلسطينية وسط استنفار أمني غير معلن في أكثر من منطقة. ولعل مناطق نفوذ النائب وليد جنبلاط هي أشد المناطق تأثرا لجهة الاستنفار، حيث انعكس هذا الامر في حدة خطابه الداعي الى إيجاد حلول للتهدئة، على الرغم من إستكماله إستدارته السياسية الجديدة هذه المرة بإتجاه قوى الرابع عشر من آذار بإطلاقه مواقف تمهد لانقلاب جديد على سلاح المقاومة.
وعلى الرغم من التصريحات الإقليمية المحذرة من إنزلاق البلد الى حرب أهلية وفتور العلاقة على خط رئاسة الحكومة – رئاسة المجلس النيابي والتقرب الملحوظ في مواقف رئاسة الجمهورية من قوى 14 آذار، غرّد سمير جعجع وحيدا في طمأنة اللبنانيين بأن حربا أهلية لن تقع كاشفا للمرة الأولى عن طموحه الرئاسي. وبدا واضحا ان موقف جعجع المنفرد يتماهى مع سياسة سعودية لا تريد حاليا إنفلات الأمور لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن ضبط الوضع، بعد أن صار الميدان رهن بقبضة مقومات جديدة ليس أهونها دخول القاعدة فعليا الساحة اللبنانية من خلال وجود لوجيستي وبيئة حاضنة في أكثر من مكان في لبنان، وانكشاف الساحة تماما امام تبادل الرسائل الأمنية الدولية كما في حالة خطف الأتراك، علما ان عمليات الخطف للسوريين المعارضين تكشف أيضا عن مساهمة استخبارية سورية في تأمين المعلومات حول “بنك الأهداف”، في خطوة متوقعة بعد أن ذهب الخصوم بعيدا إن لجهة الدور التركي في الملف السوري أو لجهة ما يُشاع حول الدور الاستخباري الفرنسي في تلفيق قضية الوزير السابق ميشال سماحة.
من هنا، فإن تتالي الدعوات الخليجية والاجنبية للرعايا بأخذ الحيط والحذر أو مغادرة لبنان كان للمرة الأولى حدثا مبررا بعد أن بات الجميع طرفا مطلوبا في خضم عملية تصفية الحساب.
وامام خطورة المشهد الأمني، اتجهت الأنظار الى المقاومة تحديدا كونها المطلوب الأول والأخير في أي عراك داخلي. ففاجأ السيد حسن نصرالله مجددا الجميع بإعادة توجيه البوصلة بإتجاه الصراع العربي – الاسرائيلي في إطلالاته خلال شهر رمضان (ويوم القدس تحديدا)، ومن خلال توجيه رسائل ردعية على مستوى اقليمي، علما ان أوساطا مقربة من “حزب الله” لا تخفي وجود مؤشرات لدى الحزب على عمل عسكري ما في المنطقة وترجح وقوعه ضد ايران ، بحسب ما علمت “صدى الوطن”. وتقرأ هذه الأوساط العديد من الأحداث على الساحتين اللبنانية والسورية في سياق ترتيب الاجواء لعمل عسكري ضد إيران، وما يستتبع ذلك من تدحرج للوضع في اكثر من بقعة جغرافية في المنطقة.
ولعلّ هذه المؤشرات تفسّر سبب تركيز السيد على معادلة جديدة في تاريخ الصراع مع اسرائيل من خلال الحديث عن عشرات آلاف القتلى في حالة الحرب مع حزب الله (كما مع ايران).
وعلى مسار مواز، كان الثنائي الشيعي “أمل – حزب الله” يحاول لملمة ما يقدر على لملمته، بعد ان أُعلن صراحة ان “الوضع خارج السيطرة”، من خلال الحفاظ على الحد الأدنى من الضبط عبر حماية طريق المطار والتعهد بعدم السماح بقطعها، مع الإشارة الى أن قراءة الثنائي الشيعي لهذا الأمر تندرج تماما في إطار الرؤية الأعم للمشهد اللبناني.
ومع تسارع الأحداث، تنحو الأمور باتجاه الشمال بعد أن بات واضحا وجود قرار بتحويله الى منطقة عازلة تُستخدم في الضغط على سوريا في المرحلة المقبلة بعد فشل جميع الأوراق العسكرية هناك، على أن المؤشرات والتوقعات تشير بوضوح الى ان حمم البركان الطرابلسي باتت تماما عصية عن قدرة الدولة على السيطرة.
Leave a Reply