لم يعد أمام الطبقة السياسية المختصمة في لبنان من مجال لإدارة حوار بروح رياضية سوى اللجوء إلى “الحوار بالأرجل” في لعبة كرة قدم، وفوق مساحة خضراء، محظور على الجمهور اللبناني ارتيادها، ليس فقط لمشاهدة لقاء “الأحمر” و”الأبيض” السياسيين، بل لمشاهدة أي لقاء رياضي بين أنديتهم التي وصل اتحادها منذ فترة بعيدة الى استنتاج أن الجمهور اللبناني لا يمتلك مؤهلات التفرج على لقاء كروي بين فريقين رياضيين، فكيف اذا تعلق الأمر بطبقة سياسية بأكملها شمرت عن أرجلها والتقى ممثلوها ورموزها في ساحة نزال حبيّ إحياء لذكرى حرب أهلية يصر الجميع على نبذها، و”ذكرها دون استعادتها” مع أن شبحها لايزال يحتل مخيلات القاعدة العريضة لجماهير ولدت بعدها، لكنها لم تقرأ عن أهوالها سوى عناوين مبهمة وسريعة المرور وموسمية الظهور.
كان من الممكن للقاء الكروي السياسي الذي قاده الكابتن سعد الحريري عن الفريق الأحمر، والكابتن علي عمار عن الفريق الأبيض أن يكون مناسبة تتوج فيها الطبقة السياسية بأطرافها المندمجين كلاعبين، خارج حدود الانقسام السياسي والمذهبي والطائفي، مرحلة من التدرب على التخفف من ثقل “أوزانها” واكتساب لياقة ديمقراطية ومهارات فنية سياسية أرقى مما تمتلكه حاليا.
فبعد مرور 35 سنة على انطلاقة الرصاصة الأولى لحرب أصابت بلدا في قلب تعايش أبنائه وفي صميم مبرر وجوده، لايزال اللبنانيون حكاما و”جماهير” أسرى لذهنية الحرب الأهلية ويدورون في فلكها، ولا يتوانون عن مقاربتها مرة جديدة كلما شعرت طائفة من الطوائف بصداع سياسي أو وصلتها رسالة مستعجلة من “باب عال” للتحرك دفاعا عن “قضايا الأمة” أو دفعا لانغماس في “قضايا لا تعنينا”.
في المدينة الرياضية اختلط اللاعبون السياسيون في ظاهرة لا تتكرر في لبنان الا نادرا، ذابت فروقاتهم فرأينا التنسيق العالي بين “التيار الوطني الحر” ممثلا بجبران باسيل و”تيار المستقبل” ممثلا بسعد الحريري، وان لم يسفر عن أهداف اضاعها رئيس الحكومة جراء رعونة التسديد، فاستغلها “حزب الكتائب” متسلحا بحيوية وشباب ممثله النائب سامي الجميل فنجح في التسجيل الرياضي بعد سلسلة من الاخفاقات في التسجيل السياسي، رغم خبرة وقدرة “المدرب” الشيخ الرئيس، والوالد أمين الجميل.
صحيح أن طاقم الحكام كان من المجتمع المدني، وأن الحكم السياسي رئيس البلاد جلس في مقاعد المتفرجين على “حوار الأرجل” الذي سبق جولة “الحوار بالكلام” الذي يديره في جولاته المتباعدة، لكن الصحيح أيضا أن المجتمع المدني كان مغيبا عن اللقاء وأن الطبقة السياسية لا ترضى شريكا لها حتى في لعبة كرة يصرون على حصرية تقاذفها وإبعاد “الآخرين” عنها.
لكن اللقاء الكروي السياسي الذي خاضه أقطاب الفريقين المتخاصمين خارج حدود الانقسام هذه المرة، جاء ليؤكد للبنانيين في الذكرى الخامسة والثلاثين لحربهم الأهلية أنهم لم يبلغوا بعد “سن التفرج” على المشهد الجامع لسياسييهم، وأن ما صنعته خطبهم التعبوية في نفوس أتباعهم، لا يؤهل هؤلاء الأتباع لمتابعة حية لمجريات لقائهم، في حين تبقى “إعادة تأهيل” الجمهور في أدنى سلم أولويات هؤلاء السياسيين، رغم حماسة الجمهور لحضور اللقاء الذي حيل بينهم وبينه بعشرات آلاف رجال الأمن والجيش وفق تقدير بعض التقارير الإعلامية للاجراءات الأمنية التي أحاطت بموقع المدينة الرياضية والطرق المؤدية اليه.
واذ شاء السياسيون في بلد الطوائف أن يبعثوا، مشكورين، برسالة وفاق وانسجام في ذكرى الحرب، لم يتأخر عدوهم “المشترك” في ارسال رسالة تهديد جديدة لبلدهم ومقاومتهم اخترقت الاجواء الاحتفالية لنزول سياسيي البلد الى ملعب المدينة الرياضية تحت شعار “كلنا فريق واحد” والذي وحّدهم في الشكل، تاركا المضمون لأحدث جولة حوار في القصر الرئاسي حول جنس “الاستراتيجية الدفاعية” التي تندر حولها لاعب الفريق الأحمر سامي الجميل معيبا على كابتن الفريق الأبيض علي عمار “عطالتها” ورد عمار بأنها منذورة لعدو اللبنانيين، إسرائيل، وليست لهزيمة فريق رئيس الحكومة الذي لا يكف حزب الكابتن عمار عن التذكير بالاستعداد لتسهيل مهمته في السياسة، كما في ملاعب الكرة.
والحال أن “الاستراتيجية الدفاعية” التي لايزال الأفرقاء السياسيون مختلفين بشأنها يلزمها أكثر من مجرد تمريرات بين “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” أو بين “حزب الله” و”حركة أمل” و”حزب الكتائب”، خلال اللعب في الوقت الاقليمي الضائع، ريثما يقرر طاقم الحكام الدوليين في اللقاء النووي، غير الكروي، الذي استضافه الرئيس الأميركي بالتزامن مع تقاذف اللبنانيين كرة أزمتهم الداخلية، طبيعة المواجهة المقبلة بين فرق “الدرجة الممتازة” على ملعب الشرق الأوسط، والمصنفة بين “فرق الممانعة” و”فرق الاعتدال” التي يخشى أن يكون كل لبنان وبعض المنطقة ملعبها، وأن تخاض بلا بطاقات صفراء وحمراء لـ”اللاعب الإسرائيلي” الخطر المتسلل وراء كل الخطوط الدفاعية والمتسامَح مع “فاولاته” الوحشية في كل “المباريات” الحربية السابقة.
فهل يشكل اللبنانيون “منتخبهم الوطني” السياسي “للدوري الدموي” القادم عليهم، بصفوف متماسكة و”استراتيجية دفاعية” ذكية تحرم عدوهم من الإقامة في منطقة التسلل لتسجيل أهداف مدمرة ضدهم جميعا، وتضع “حكم الساحة” الأميركي وحكام التماس أمام مسؤولياتهم تجاه البلد الصغير، أم يكتفي اللبنانيون بالعرض الرمزي لوحدتهم الداخلية الفوقية في ذكرى الحرب، ثم يعود كل “لاعب” الى فريقه الأساسي في المباريات اليومية التي تشهدها المنابر والشاشات والتي تخلو من الحد الأدنى من الروح الرياضية التي استعرضوها في لقاء “كلنا فريق واحد”؟
ثمة، مع كل ما سلف، فضيلة هامة للقاء الكروي السياسي اللبناني مفادها أن اللبنانيين، لو تركوا “للعب” بمفردهم، قادرون على تجاوز معظم أزماتهم، وحلها بالحوار حتى لو اضطروا الى استخدام ارجلهم، لإنجاحه وتثميره.
قديما قال اللبنانيون: أيها السياسيون، عودوا إلى ضمائركم..
لكن هذه المقولة لم تثبت جدواها، بعد 35 سنة على انطلاقة الحرب.
لعل الأجدى أن يرفع اللبنانيون هذه الآونة شعارا جديدا بعد لقاء الأحمر والأبيض الذي أمتع اللبنانيين على مدى شوطين حافلين بالاثارة والتسلية ودفع الهموم المتراكمة.. شعار: “أيها السياسيون عودوا إلى أرجلكم”!
Leave a Reply