كمال ذبيان – «صدى الوطن»
الحوار من جديد يفتحه الرئيس نبيه برّي فـي مجلس النواب، بعد تسع سنوات على دعوته له للمرة الأولى مع مطلع آذار 2006، ليستكمله رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بعد انتخابه فـي نهاية أيار عام 2008، والذي ركّز على الاستراتيجية الوطنية الدفاعية، التي أوقفت النقاش حولها إندلاع الأزمة السورية فـي 25 آذار من العام 2011، بعد نشوب ما سمي «ثورات عربية» اندلعت شرارتها فـي كانون الأول 2010 من تونس لتتمدد الى مصر فليبيا واليمن، والدعوة كانت «الشعب يريد إسقاط النظام»، فرفع الرئيس سليمان مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مقولة «النأي بالنفس» عن ما يجري فـي سوريا خصوصاً والعالم العربي عموماً من أحداث، لمنع الحريق من الوصول الى لبنان.
ناشطون لبنانيون يعتصمون داخل مبنى وزارة البيئة في بيروت قبل إخراجهم بالقوة يوم الثلاثاء الماضي. |
وكان «إعلان بعبدا» ترجمة لهذه السياسة، لكنه لم يُطبق لإرتباط أطراف محلية بتحالفات خارجية ومحاور إقليمية، أثّرت على الداخل اللبناني، وكادت أن تهز الأمن فـيه لولا قرار دولي-إقليمي بالحفاظ على الإستقرار فـيه، فنجا اللبنانيون من اقتتال داخلي واسع، واقتصر على معارك محلية فـي طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، نجحت خطة أمنية بوقفها نهائياً، بعد أن تمّ اجتثاث بؤر إرهابية، كظاهرة الشيخ أحمد الأسير فـي صيدا، أو بتفكيك شبكات وخلايا إرهابية فـي أكثر من منطقة لبنانية، أو بمنع تمدد الجماعات الإرهابية من عرسال بإتجاه البقاع والشمال.
وتوقف الحوار بين الكتل النيابية لم يمنع الرئيس برّي من الدعوة الى حوار بين «حزب الله» و«تيار المستقبل» وبعد تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام التي شاركت فـيها مختلف القوى السياسية وتحديداً «حزب الله»، الذي قبل به «تيار المستقبل» بعد رفض له لخوضه المعارك الى جانب النظام السوري، وأقام معه ربط نزاع حول الأزمة السورية، كما المحكمة الدولية الخاصة بلبنان فـي قضية اغتيال الرئيس رفـيق الحريري، حيث ساهم هذا الحوار بين الطرفـين الذي استضافه رئيس مجلس النواب ورعاه فـي مقره فـي عين التينة، من أن يخفف من حدة الإحتقان الداخلي، وفـي وضع سقف للخطاب السياسي، كي لا ينزلق لبنان نحو صراع مذهبي يضرب المنطقة بين السّنّة والشيعة، وكان يحصل خرق للتهدئة من قبل الجانبين، فـيضمنلحظات سياسية، أثّرت عليها الحرب التي اندلعت فـي اليمن مع تقدم الحوثيين وحلفائهم بإتجاه عدن والسيطرة عليها، ودخول السعودية المعركة العسكرية بقواتها تساندها قوات عربية، لمنع سقوط اليمن بيد حلفاء إيران، وأخذ كل من «حزب الله» موقفاً متشدداً من التدخل السعودي واصفاً إياه بالعدوان، مما دفع «المستقبل» الى رفض المواقف التي صدرت عن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، لكن الحوار لم يتوقف، تحت شعار تنظيم الخلاف ومنع انتقاله الى الشارع، والحفاظ على الحكومة التي تملأ الفراغ الدستوري الذي أحدثه شغور رئاسة الجمهورية.
صمد الحوار بين «تيار المستقبل» و«حزب الله»، ونجح الطرفان فـي الحفاظ على الإستقرار بالتعاون الذي حصل بين وزير الداخلية نهاد المشنوق ورئيس لجنة الأمن والإرتباط فـي «حزب الله»، وفـيق صفا، الذي دعاه المشنوق مرة الى حضور اجتماع مجلس الأمن المركزي، ليؤكّد على التنسيق الذي لا بدّ منه مع طرف حزبي فاعل وله ذراعه العسكرية والأمنية، ونجح بذلك فـي الخطط الأمنية التي اعتمدت فـي البقاع بعد طرابلس وفـي الضاحية الجنوبية وبيروت.
لكن الحوار بينهما لم يرتقِ الى البحث حول رئاسة الجمهورية التي ترك «حزب الله» أمرها وقرارها للعماد ميشال عون الذي أيّد ترشيحه وقدّم الدعم له، وشجّعه على الحوار مع الرئيس سعد الحريري بشأن دعمه لإنتخابه رئيساً للجمهورية على أن يكون الأخير رئيساً للحكومة ويعملان معاً لبناء الدولة، بالتشارك مع الآخرين وكان الأمل بوصول الحوار بينهما الى نتائج إيجابية متقدمة، لكن «فـيتو سعودي»، قال العماد عون إن وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفـيصل وضعه على ترشيحه، أخفق الإتفاق بينه وبين الحريري، فتعطّل إنتخاب رئيس للجمهورية.
رمى «تيار المستقبل» حينها الكرة فـي الملعب المسيحي وأعلن أن ما يتّفق عليه المسيحيون يقبل به، فتوجّه عون للحوار مع سمير جعجع عبر مندوب عنه هو النائب إبراهيم كنعان، وعن جعجع مسؤول الإعلام فـي حزب «القوات اللبنانية» ملحم رياشي، حيث توصل الرجلان الى «إعلان نوايا» كسرت الحاجز النفسي بين القاعدة الحزبية والشعبية للطرفـين، دون أن يتوصلا الى تفاهم حول رئاسة الجمهورية، سوى التأكيد على أن يصل إليها مَن له تمثيل مسيحي، لقطع الطريق على مرشح توافقي أو وسطي.
فالحوار الثنائي موجود بين أطراف سياسية، ونجح فـي أكثر من محطة، إذ سهّل الحوار بين «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر» تشكيل الحكومة والحوار بين «حزب الله» و«تيار المستقبل» فـي ضمان الأمن والإستقرار، وبين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» فـي تحرير الساحة المسيحية من الخوف حول تجدد الصدام والمعارك بين الطرفـين والمشحونة قاعدتاهما بالأحقاد والضغائن والتي يعود عمرها الى حوالي ثلاثة عقود.
واستعجال الرئيس برّي للحوار والدعوة إليه فـي 9 أيلول الجاري، وحدد جدول أعمال الطاولة بسبعة بنود تبدأ برئاسة الجمهورية وعمل مجلس النواب والحكومة والبحث فـي اللامركزية الإدارية وقانون الإنتخاب واستعادة الجنسية ودعم القوى العسكرية والأمنية، هو للبحث فـي الخروج من الأزمة الدستورية والسياسية، بعد أن خرج الشعب الى الساحات يطالب بإسقاط الطبقة الحاكمة ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة منهم وتأمين الخدمات العامة من رفع نفايات ومعالجتها، الى الكهرباء والمياه والصحة والتعليم والسكن وتوفـير فرص العمل لوقف البطالة التي بلغت فـي صفوف الشباب وخريجي الجامعات الى نحو 30 بالمئة، وارتفاع نسبة الفقر، وكل هذه المطالب نظر إليها المسؤولون بأنها محقة، واعترفوا فـي التقصير بمعالجتها، دون أن يقدموا أجوبة عن الأسباب، ولم يعلنوا استقالاتهم من مسؤولياتهم الوزارية، اويرفضوا التمديد لوكالتهم عن الشعب الذي يطالب باستردادها منهم بإجراء إنتخابات وفق قانون جديد يؤمن التمثيل الصحيح والسليم يعتمد لبنان دائرة واحدة على أساس النسبية.
هذه المطالب السياسية بإصلاح النظام أو إسقاطه، وتغيير السلطة المتربعة على الحكم منذ عقود، والإستجابة للقضايا الإجتماعية والاقتصادية والخدماتية والإنمائية، حرّكت الشارع وملأت الساحات فـي وسط بيروت من المواطنين الغاضبين على حكومات متعاقبة حرمتهم النور والهواء النظيف ومنعت عنهم المياه المهدورة فـي الأنهر، ولم توفر لهم ظروف العيش بكرامة، فأذلتهم بالدوائر الرسمية التي يغمرها الفساد وتستوطن فـيها الرشوة، حيث تحوّلت الوزارات والإدارات الى محميات سياسية، والى استنزاف أموال المواطنين والخزينة والإثراء غير المشروع على حسابهم.
هذا الحراك المدني الشعبي والشبابي، الذي بدأ بالعشرات وازداد عديده الى المئات والآلاف خلال الأشهر الأخيرة، حيث راكمت هيئات المجتمع المدني على تحركات مرحلية لها، لتصل الى نقطة اللاعودة عن ضرب الفساد ومحاربة الفاسدين، وإسقاط المتربعين على السلطة، حيث حشد منظمو الحراك عشرات آلاف المواطنين الذين أتوا من كل الطوائف والمذاهب والمناطق، للتعبير عن وجعهم، بعد أن تخلّت الأحزاب عن مهامها فـي الدفاع عن حقوق المواطنين، ووصل الفساد الى العديد من قيادات وأعضاء هذه الأحزاب.
ونجاح الحراك المدني، الذي استقطب كل اللبنانيين المقيمين منهم والمغتربين، وأعطاه بعده الوطني والإجتماعي، ولم يضعه فـي إطار سياسي أو طائفـي، وهو ما وسّع إنتشاره، ليضغط على السلطة كي تقدّم الحلول، وتستجيب للمطالب الشعبية بمحاسبة المسؤولين عن التقصير فـي ملف النفايات، والأخذ برأي خبراء البيئة فـيه، ورفض التحاصص بين أطراف السلطة.
ويحاول الرئيس برّي إلتقاط اللحظة السياسية والشعبية المناسبة، بالدعوة للحوار كي يفرض على المحاورين القبول بالتنازل أمام المواطنين، كي لا يُطاح بالجميع ويسقط هيكل النظام السياسي على كل الأطراف دون استثناء، وأن رئاسة الجمهورية التي تعثر إنتخاب أي من المرشحين لها، بسبب توزع الأصوات على كتل نيابية، والتي لا يمكن أن تحسم الفوز لهذا المرشح وذاك، فلا بدّ من التوافق حول مرشح لا ينكسر فـيه أي طرف سياسي، لتأمين مرحلة إنتقالية، لإعادة ترتيب الوضع الداخلي سواء فـي التشريع أو فـي ضبط العمل الحكومي، وصولاً الى التوافق حول قانون إنتخاب بات الأطراف السياسيون على قناعة بضرورة إعادة توزيع الدوائر الإنتخابية واعتماد النسبية.
وفتح الرئيس برّي باب الحوار، لمنع تفاقم الوضع فـي الشارع الذي تتحكم فـيه هيئات وجمعيات ومجموعات متعددة، وترفع شعارات ومطالب متنوعة، حيث تغيب القيادة الموحدة عن هذا الحراك الذي بدأ القلق ينتاب اللبنانيين، من أن ينزلق مَن هم فـي الشارع الى صدامات مع القوى الأمنية أو مع مجموعات من خارج الحراك، لإحداث شغب كما حصل فـي مرات سابقة، مما أدّى الى تشويه صورة المتظاهرين الذين كانت غالبيتهم من الطبقة الوسطى التي هُمشت فـي لبنان، وكانت تشكّل صمام أمان للنظام السياسي، فتحوّلت هذه الطبقة الى فقيرة، مما زاد من السخط الشعبي على السلطة التي لجأت مع بدايات الحراك الى العنف، فانقلب عليها، مع ازدياد الغضب من تصرفاتها اللامبالية، والتي تستخدم الوقت لتمييع المطالب، كما فعلت مع «هيئة التنسيق النقابية» ومع تحركات مطلبية أخرى.
لكن الحراك الشعبي الذي ظهر فـي بيروت وبعض المناطق بات مختلفاً عما سبقه، ويبدو أن المواطنين، فقدوا الثقة بمن منحوهم أصواتهم، لتصبح الإنتخابات هي الإمتحان للثائرين على السلطة والنظام، فلو حصلت اليوم، فإن التغيير سيكون قريباً وسيحصل، والرئيس برّي يدعو إليه بالحوار، ليحفظ النظام من داخله لأن من دونه وقوع الفوضى ربما.
Leave a Reply