هل يستيقظ اللبنانيون، فيجدوا انفسهم خارج الجغرافيا.. والتاريخ؟
كشفت تطورات الاسبوع الماضي بخصوص أزمة الرئاسة اللبنانية حقيقة الصراع بـ«الواسطة» بين المحورين الاميركي – الفرنسي – الخليجي والايراني – السوري واظهرته عارياً امام اللبنانيين الذين لا يزال بعض السذج منهم يظنون ان ازمتهم تنعقد عند خطوط التماس السياسي الداخلي بين فريقي 14 و 8 آذار.فبعدما استنفدت المواجهة بـ«الواسطة» اغراضها بين ذينك المحورين اللذين يديران الازمة، ولم يفلح اي منهما في تحقيق «نصر» حاسم على ارض الواقع السياسي، برز اللاعبون الكبار الى ساحة المواجهة بكل ثقلهم، فخرج الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن دبلوماسيته الصامتة مهدداً النظام السوري بـ«كشف الحقائق» وتحميله مسؤولية الاخفاق الحاصل على جبهة الانتخابات الرئاسية، بعدما اعتبر ان جلسة الانتخاب التي كانت مقررة يوم الاثنين الماضي ستكون «الفرصة الاخيرة» امام لبنان لاتمام هذا الاستحقاق، ثم عاد و«مدد» المهلة الى جلسة السبت في 22 الجاري. ومعلناً ان دمشق نكثت بتعهداتها في تسهيل عملية الانتخاب محذراً اياها بـ«خطوات جديدة» سوف يتم اللجوء اليها بعد الموعد الجديد المعرض للالغاء او التأجيل في ظل الاجواء السياسية السائدة.استبقت دمشق الموقف الفرنسي المزمع اتخاذه والذي سيحملها المسؤولية عن عرقلة الانتخابات بتنظيم لقاء اعلامي بين وزير الخارجية وليد المعلم وعدد من مراسلي وسائل الاعلام، رد فيه على الاتهامات الصادرة عن الرئيس الفرنسي واخرج المواقف الرسمية لدمشق من خلفية الصورة الرئاسية الى واجهتها عندما اكد الموقف السوري الرافض لاجراء الانتخابات الرئاسية قبل سلة التفاهم الشاملة التي تتضمن التفاهم على قيام حكومة الوحدة الوطنية، التي وضعها في الكفة الموازية لأهمية الانتخابات الرئاسية، ورفض دمشق ممارسة اي ضغوط على حلفائها من اجل تمرير الاستحقاق الرئاسي «بأي ثمن».واذ صمتت دمشق طويلاً عن الجهر بمطالبها اللبنانية، اضطرت تحت ضغط الاتهامات لها بالعرقلة الى الخروج عن صمتها والتبني العلني لمطالب المعارضة بعدما ادركت ان الثمن المعروض عليها فرنسياً لايفي بحاجتها الى استعادة جزء من نفوذها اللبناني عبر حلفائها ووضعت مطالبها اللبنانية هذه المرة على طاولة المزاد الاقليمي والدولي المفتوح من الساحة اللبنانية.يستفاذ من التأزم الطافي على سطح الاتصالات الفرنسية – السورية النشطة خلال الاسابيع الماضية ان كلاً الطرفين كان يؤدي لعبة تمرير الوقت لفرض الحلول التي تلائمه. فالفرنسيون الذين حصلوا على تفويض اميركي في مؤتمر آنابوليس لمحاولة استجلاب سوريا الى الحظيرة العربية تحت سقف التفاهم الاميركي الفرنسي قد انتهى دون تحقيق اي نتيجة رغم سلة الاغراءات التي لوحت بها باريس للرئيس بشار الاسد والوعد بـ«الانفتاح العظيم» على نظامه واخراجه من عزلته العربية والدولية.غير ان المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية السوري الذي اتهم فيه الاميركيين بعرقلة الجهود المبذولة بين السوريين والفرنسيين ولومه الاخيرين على عدم القدرة على العمل بالاستقلال عن الطرف الاميركي يفصح عن الرغبة السورية التي كانت تطمح الى «فك التحالف الاميركي – الفرنسي» اقله في لبنان، في مقابل الجهود الاميركية والفرنسية والعربية لفك التحالف السوري – الايراني. كان نائب الرئيس السوري فاروق الشرع قد مهد للمنازلة الجديدة مع المحور الغربي على الساحة اللبنانية بتصريحات نارية حول اوضاع حلفاء سوريا في لبنان «الذين باتوا اقوى من السابق». وووجهت هذه التصريحات بغضب سعودي ترجمته حملة اعلامية شنها معظم رؤساء تحرير الصحف السعودية على نائب الرئيس السوري واصفين اياه بالعقبة التي تمنع عودة سوريا الى الصف العربي، مع ما في هذا التوصيف من مبالغة. ففاروق الشرع ببساطة لا يؤدي سوى دور موكل اليه من ضمن تركيبة النظام القائم ولا يمثل خروجاً على رغبة النظام في استمرار حلفه الاستراتيجي مع طهران ورؤية هذا الحلف لطبيعة الصراع الدائر في المنطقة.الرئيس الفرنسي كان «ينذر» السوريين باعلانه عن «الفرصة الاخيرة» للانتخابات الرئاسية اللبنانية بأن تفويضه من قبل الاميركيين شارف على النفاد.ولكي يُقرن القول بالفعل، شهدت باريس لقاء دولياً- عربياً على هامش مؤتمر دعم سلطة الرئيس محمود عباس، خصص لأزمة الانتخابات الرئاسية اللبنانية وخرج ببيان حازم حول خطورة استمرار الفراغ الرئاسي اللبناني. لم تدع دمشق الى هذا اللقاء على غرار ما جرى في اسطنبول لمؤتمر دول الجوار العراقي قبل شهرين، وهو ما انزعجت منه دمشق اشد الانزعاج الذي عبر عنه وزير الخارجية وليد المعلم عندما اعلن ان سوريا لم تكن على علم باللقاء الباريسي الاخير، وحيث اشتمت دمشق رائحة استمرار «مؤامرة» عزلها بعد انتهاء المفاعيل الإعلامية لمؤتمر آنابوليس واخفاقها في الحصول على «ثمن لبناني» جراء هذه المشاركة.في الاثناء شرعت الادارة الاميركية باطلاق اشارات التحذير الى دمشق وقام مساعد وزيرة الخارجية ديفيد ولش بزيارة الى العاصمة اللبنانية هدفت الى إعادة الثقة بالدعم الاميركي بين اعضاء فريق 14 آذار الذي سادت صفوفه اجواء من الخوف من ان تكون واشنطن قد اقدمت بالفعل على بيع لبنان للنظام السوري في خلال مؤتمر آنابوليس، وهو ما استدعى استنفاراً غريزيا لركن اساسي من اركان هذا الفريق هو النائب وليد جنبلاط الذي ابدى انفتاحاً غير مسبوق على الحلول واقام رأس جسر طارئ مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري تمهيداً لرحلة العودة عن الرهان على الدعم الاميركي لـ«ثورة الارز».استدعت اجراءات اعادة الثقة الى فريق 14 آذار قيام ديفيد ولش بزيارة ثانية الى لبنان خلال اقل من ثلاثة ايام، رافقه خلالها هذه المرة، اكثر اعضاء الادارة الاميركية تشدداً والمكلف بالملف السوري اللبناني اليوت ابرامز.اطلق ولش في الزيارة الثانية سلسلة من المواقف التحذيرية فور وصوله الى بيروت مستهلاً برئيس المجلس النيابي نبيه بري، داعياً اياه الى «تحمّل مسؤولياته» في تسهيل انعقاد البرلمان لانتخاب قائد الجيش الذي توافق عليه الجميع «مبدئياً».وكما في الزيارة الاولى، قاطع ولش الناطق الجديد باسم المعارضة رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» النيابي العماد ميشال عون مكتفياً بالاجتماع بأركان 14 آذار وبرئيس المجلس النيابي نبيه بري وبالبطريرك الماروني نصرالله صفير، متحدثاً هذه المرة من بكركي عن دعم الادارة الاميركية «للاقلية المسيحية» في لبنان. و«للحكومة اللبنانية المنتخبة ديموقرطياً». كان لافتاً ايضاً اشارة ولش الى تكليفه من الرئيس بوش شخصياً بالقيام بهذه الزيارة لتجديد دعم الادارة للحكومة اللبنانية التي تقوم بأعباء الرئاسة في ظل الفراغ الحاصل.ولم يلبث الرئيس بوش ان قدم جرعة دعم اكبر لمهمة مبعوثه ولش وللفريق اللبناني الذي راهن على الدعم الاميركي منذ اندلاع الازمة الذي اعقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فقد اعلن بوش في مؤتمره الصحفي الخميس الماضي عن «نفاد صبره» من مماطلة الرئيس بشار الاسد، نافياِ ان يكون كلف احداً (الفرنسيين) بالاتصال به ومعلناً ان لا حاجة لهذا الاتصال «اذا كان الاسد يسمع ما نقول».الجديد المقلق هو تصريح بوش في المؤتمر الصحفي رداً على سؤال حول تداعيات فشل جلسة السبت في انتخاب رئيس للجمهورية هو تأكيد بوش انه والمجتمع الدولي يدعمان انتخاب رئيس بالاكثرية المطلقة (النصف زائداً واحداً) ووعده بأن يحظى الرئيس المنتخب خارج اطار التوافق الوطني بدعم اميركي ودولي.هذه التطورات التي واكبها الاعلان عن اكتمال عملية تمويل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري واعلان تسريع انطلاقتها في موعد اقصاه شهر شباط (فبراير) القادم، اعادت لبنان دفعة واحدة الى المربع الاول للأزمة، وتهدد من جديد بجعله ساحة المعركة القادمة في حرب الارادات بين مشروعين لا يجدان اخصب من التربة اللبنانية ولو تطلبت سقاية هذين المشروعين المتناقضين دماً لبنانياً غزيراً لانمائهما وخراباً لبنانياً عميماً لاجل اعمار احدهما ومنحه قابلية الاستمرار.فهل ادرك اللبنانيون اسرار لعبة الامم فوق وطنهم والمقامرة بمصائرهم، ام انهم سيظلون أسرى أوهام تفرزهم بين «ممانعين» و«عملاء» بينما الحقيقة انهم لا هؤلاء ولا اولئك.وتكراراً نطرح السؤال: هل ينتفض اللبنانيون على حالة اسرهم واسترهانهم لمصالح ومشاريع الدول قبل ان يستيقظوا ويجدوا انفسهم خارج الجغرافيا.. والتاريخ؟.
Leave a Reply