حتى الانتصارات في لبنان، هي موضع انقسام وخلاف، بدلاً من أن تكون مناسبة للوحدة والإجماع، كأن هذا البلد متخصص في إضاعة الفرص وتشويه الإنجازات.
هكذا حصل عام 2006 حين انتصرت المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، فإذا بأصوات تخرج من الداخل اللبناني ترفض الاعتراف بالحقيقة الساطعة فيما العدو الإسرائيلي ذاته أقر بالهزيمة وشكّل لجنة تحقيق عُرفت بـ”لجنة فينوغراد” لمساءلة القادة الإسرائيليين ومحاسبتهم.
«باصات الذل»
بعد مرور 11 سنة على تلك التجربة، بدا أن السيناريو ذاته يتكرر، ولكن هذه المرة على الحدود الشرقية لا الجنوبية. كان يُفترض ألا يختلف اثنان في لبنان على أن المقاومة والجيش حققا نصرا مدويا على تنظيم داعش واستطاعا طرده كليا من جرود القاع وراس بعلبك وفرضا عليه الرحيل عبر باصات «الذل الموصوف» الذي لم تخفف من وطأته وحرارته أجهزة التكييف، وذلك بعدما أذعن لشروط الاستسلام ( مغادرة الجرود، كشف مصير العسكريين المختطفين، تسليم جثمان مقاتل في الحرس الثوري الايراني، تسليم جثامين عدد من شهداء المقاومة، وإطلاق أسير من عناصرها).
الحناجر.. الخناجر
لكن هذا التطور الاستراتيجي لم يمنع البعض من التصويب على ما تحقق، واختراع أوهام ومن ثم تسويقها باعتبارها بديهيات، كأن هناك من يحترف جلد الذات أو.. الآخر. لم تكن دماء الشهداء قد جفت عندما تحولت بعض الحناجر إلى خناجر، تطعن في الانتصار وتقلل من شأنه، تارة من خلال الكلام حول صفقة مفترضة بين حزب الله و«داعش»، وطورا عبر اتهام الحزب بسرقة جهد الجيش اللبناني في محاولة للإيقاع بين الجانبين اللذين تخاطبا بلغة واحدة خلال المعركة هي لغة الميدان وما أفرزته من تناغم تلقائي على الأرض، من دون الحاجة الى تنسيق مباشر أو إنشاء غرفة عمليات مشتركة.
وأكد مطلعون على مناخ القيادة في اليرزة أن المؤسسة العسكرية كانت مضطرة إلى نفي وجود أي تنسيق مسبق، تجنبا لتوتير العلاقة مع واشنطن التي تشكل المصدر الأساسي لتسليح الجيش وللمساعدات العسكرية التي يحصل عليها، بل إن معلومات «صدى الوطن» تفيد بأن السفيرة الأميركية في بيروت زارت رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير الدفاع وقائد الجيش وأبلغتهم صراحة رفض الولايات المتحدة لحصول أي تنسيق بين الجيش اللبناني من جهة وحزب الله والجيش السوري من جهة أخرى، وبالتالي كان لا بد من مراعاة هذا الاعتبار خلال تنفيذ عملية «فجر الجرود» مع ترك دينامية الميدان تشق مجراها وتبتكر قدرا معينا من الانسجام في أداء تلك القوى التي كانت تحارب فوق جغرافيا واحدة وضد عدو مشترك.
التحريض الفاشل
ويبدو أن محاولة تأليب الجيش على المقاومة لم تؤد إلى النتيجة التي كان يتوخاها المحرضون، إذ أن العماد جوزف عون أكد من القصر الجمهوري أن المواجهة انتهت بأفضل طريقة ممكنة، مشددا على أن ربح المعركة من دون خوضها هو الخيار الأنسب وهذا ما حصل في المرحلة الأخيرة من الهجوم بعدما خضع إرهابيو «داعش» لشرطين أساسيين هما كشف مصير العسكريين المخطوفين لديه والانسحاب من الأرض اللبنانية.
لقد أتى موقف العماد عون ليدحض «تهمة الصفقة» التي حاول البعض إلصاقها بالمقاومة وليُبين أن الجيش كان موافقا على الصيغة التي اعتمدت لإنهاء المواجهة، وإلا لكان القتال قد استمر، علما أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم شارك في المفاوضات وكان على تواصل مستمر مع المسؤولين الرسميين المعنيين لاطلاعهم على مراحلها.
الأدوار المقلوبة
والمفارقة أن المزايدين والمنظرين، ممن يعتبرون أنه كان ينبغي المضي في المعركة حتى القضاء على آخر داعشي في الجرود، هم أنفسهم منعوا الجيش في وقت سابق من استكمال الهجوم على «النصرة» و«داعش» لتحرير العسكريين الذين جرى اختطافهم بعد الاعتداء على مواقع الجيش في عرسال ومحيطها، وهم أنفسهم الذين حالوا منذ ذلك الحين دون إصدار القرار السياسي بتحرير الجرود معتقدين أنه يمكن توظيف الإرهابيين في الضغط على المقاومة وسوريا، فلما بادر حزب الله الى قلب الطاولة وتنفيذ المهمة المؤجلة، وبالتالي استرجع جرود عرسال الى السيادة اللبنانية، بات أنصار المهادنة والتعايش مع الأمر الواقع من أشد المتحمسين لتكليف الجيش بالحسم العسكري بعدما كبلوه طويلا، مفترضين أن هذه هي أفضل طريقة لوقف اندفاعة الحزب الذي استطاع من خلال انجازاته الأخيرة أن يستعيد الكثير من الرصيد والبريق على المستوى الوطني.
وأكد مصدر عسكري في الجيش اللبناني لـ«صدى الوطن» أن الجيش لا يتأثر ببعض الأصوات النافرة التي تصدر من هنا أو هناك، لافتا الانتباه الى أن كل المعارك والحروب في العصر الحديث تنتهي باتفاقات معينة، ومشددا على أن الجيش أوقف المعركة في المربع الأخير بعدما تحقق عبر التفاوض هدفا العملية العسكرية وهما تحرير الجرود من الإرهابيين وكشف مصير العسكريين المخطوفين.
وتوقف المصدر عند إصرار البعض على محاولة التقليل من قيمة الإنجاز الذي حصل، قائلا: في لبنان لا يوجد إجماع وطني على شيء، حتى الانتصار.. إنه لبنان.
Leave a Reply