وليد مرمر – لندن
من روائع الأدب الروسي، عبارة للروائي فيودور دوستويفسكي تقول:
– أين نحن الآن؟
– في القاع..
– جيد، فعلى الأقل لن نسقط مرة ثانية!
والقاع، أو الحضيض أو «جهنم» كما أسماها الرئيس ميشال عون، هو التوصيف الأكثر ملائمة للحالة اللبنانية سيما منذ «ثورة» 17 تشرين من عام 2019 وما تبعها من ارتدادات سياسية وإقتصادية ومالية واجتماعية أمست تهدد التركيبة اللبنانية، الهشّة أصلاً.
وبعد الفشل غير المعلَن للمبادرة الفرنسية وعدم الإفراج الإقليمي –وتحديداً السعودي– عن تأليف الحكومة، وفي خضم انسداد شبه تام للأفق السياسي، تضاعف سعر الدولار عشر مرات منذ بدء «الثورة» حتى يومنا هذا، مسبباً خللاً معيشياً واقتصادياً لم يعهده اللبنانيون قط، هذا فضلا عن تهريب المتمولين لمليارات الدولارات إلى الخارج بالتزامن مع انطلاق الحراك، وما تلاه من تجميد لودائع اللبنانيين في المصارف.
هذا كله زاد في معاناة اللبنانيين المعيشية على كافة الصعد وأصبح السلم الأهلي مهدداً بمخاطر غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990.
كذلك منذ بدء الحراك، هاجر من لبنان ما يقارب من 400 ألف لبناني أكثرهم من المسيحيين. كما أقفلت العديد من الشركات والمحال. فعلى سبيل المثال سُجل حتى الآن إقفال ما يربو على 600 صيدلية على جميع الأراضي اللبنانية. وأما ما تبقى من الصيدليات فإنها تعاني من ارتفاع سعر الدولار وفقدان الكثير من الأدوية الضرورية. ومؤخراً دخل حليب الأطفال ومشتقاته إلى عداد السلع المفقودة في السوق اللبناني. أما النفط ومشتقاته فلم يسلموا من تبعات الأزمة حيث تزدحم محطات المحروقات (العاملة منها) بطوابير طويلة جداً للسيارات، التي قد يطول انتظارها لساعات عديدة لتعبئة كمية محدودة من الوقود.
أما فيما خص الكهرباء فقد ازدادت ساعات التقنين اليومية وهناك تهديد فعلي بحتمية الظلام الشامل.
هذه الأزمة المتنامية والتي سماها البنك الدولي بأنها ثالث أكبر أزمة بتاريخ العالم الحديث، تسببت بهبوط حاد في الدخل الفردي لعله قد يكون من الأدنى في العالم. وبذلك أصبح 60 بالمئة من اللبنانيين مصنفين فقراء بينهم 40 بالمئة تحت خط الفقر.
سياسياً، ومع تعثر تأليف الحكومة لأشهر طويلة، يبدو أن الأزمة تعدّت الإطار الاقتصادي لتصبح أزمة كيان، أو على الأقل أزمة نظام، بحسب النائب طلال أرسلان.
وأزمة النظام تستدعي مؤتمراً تأسيسياً يمهّد لقيام الجمهورية الثالثة غير الطائفية التي يحلم بها اللبنانيون غير الطائفيين. ولكن هذا ليس إلا أضغاث أحلام. فلن تتخلى أي من الطوائف الكبرى عن مكاسبها التي وفرها لها الانتداب أولاً ثم مؤتمر الطائف ثانياً. وبالتالي فإن أكثر ما يطمح إليه اللبنانيون هو «دوحة ثانية» تعيد تنظيم أطر العمل السياسي من غير المس بالتوازنات المذهبية الداخلية.
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل أُخذ القرار الدولي بجعل لبنان دولة فاشلة؟
إن الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السهل. نعم هناك قرار دولي بإضعاف دول الممانعة في المنطقة. وفي هذا الإطار جاء «قانون قيصر» الأميركي على سوريا، ثم تم إفساد العملية السياسية العراقية، بينما تستمر الحرب الطاحنة على اليمن، ثم جاءت الأزمة اللبنانية لتضع لبنان على قاب قوسين من إعلانه دولة فاشلة. ولكن ليس بعد!
فإن تطبيق المثال الفنزويلي على لبنان سيكون له تبعات إقليمية يبدو أن الدول المؤثرة في المشهد اللبناني ما زالت تتجنبها. فهو قد يتسبب بهجرات لبنانية–سورية إلى أوروبا قد تعجز عن مواجهتها.
إن الولايات المتحدة (الإنجيلية)، وبعكس أوروبا الكاثوليكية، لا ترتكز في علاقاتها مع الأقليات في المنطقة على أسس الدين أو الطائفة، بل على المصلحة. لذلك فقد تخلت واشنطن، مع حليفها الأوروبي عن المسيحيين المشرقيين (أورثوذوكس وسريان وغيرهم) وتركوهم لقمة سائغة في وجه الإرهاب «الداعشي» و«النصروي». بيد أن دخول لبنان إلى الفوضى سوف يهدد وجود الأقليات ذات العمق الغربي (الموارنة تحديداً) والتي يجمعها بأوروبا كاثوليكية الدين والثقاقة والمصلحة المشتركة. ولا يبدو أن «الأم الحنون» فرنسا هي بوارد التخلي عن الطائفة المارونية وسائر الكاثوليك. ومن هنا جاء الاهتمام الفرنسي بلبنان عقب بدء الأزمة الأخيرة.
ومن جهة أخرى، فإن الفوضى المرتقبة قد تهدد الهدنة غير المعلنة الأطول في تاريخ الصراع اللبناني–الإسرائيلي (15 سنة)، ولذلك فإن هناك مصلحة إقليمية–دولية بعدم السماح بانحدار لبنان إلى الفوضى المطلقة وبالتالي إلى مصاف الدول الفاشلة.
لكن للنظام السعودي رؤية مخالفة حول الوضع اللبناني، فإن عدم إفراج الرياض عن تأليف الحكومة رغم تفاقم الأزمة لهو دليل لا لبس فيه على تصميم النظام السعودي على معاقبة لبنان نتيجة لخياراته السياسية التي تصب في خانة المقاومة. وهذا القرار إنما أُخذ على أعلى المستويات في مملكة آل سعود بعد حرب الجرود التي شنها «حزب الله» وقضى فيها على الفصائل الإرهابية الممولة سعودياً في جرود القلمون والتي كانت المملكة تعول عليها من أجل مواجهة الحزب وإحداث تغييرات ديموغرافية في القرى البقاعية المجاورة للقلمون. ثم عمدت فصائل «مملكة الخير»، وبعد هزائم الإهابيين في سوريا، إلى ممارسة أشد أنواع الإرهاب بحق المدنيين عندما أرسلت العديد من السيارات المفخخة لتقتص من المناطق الحاضنة للمقاومة. غير أن «حزب الله» واجه الإرهاب السعودي بنجاح منقطع النظير عندما قلّص من التفجيرات عبر تحصين مناطقه أمنياً، وعبر شن عمليات مضادة والكشف عن خيوط عمليات التفجير التي نفذتها التنظيمات الإرهابية. وهذا بلا شك عمّق من حدة الأزمة بين «حزب الله» ونظام آل سعود الذي يواصل شن حروبه المذهبية إما مباشرة أو عبر «البروكسي»، باستهداف المكون الشيعي في اليمن والبحرين ولبنان..!
إذن ما هي مآلات الوضع اللبناني وهل نحن أمام انفجار اجتماعي حتمي؟
يبدو أن هناك اتفاقاً على عدم السماح بالانحدار العامودي إلى الهاوية للأسباب التي ذكرت آنفا. ولكن هذا لا يعني أن الأسابيع المقبلة سوف تأتي بحلول ناجعة للأزمة اللبنانية.
ربما سيعطي الاتفاق النووي المزمع توقيعه مع إيران زخماً جديداً يصب في مصلحة خط المقاومة في لبنان، ولكن إلى حينه تبقى الساحة اللبنانية مفتوحة لمزيد من التأزيم، لاسيما وأن القوى التي تدور في فلك الانهزامية العربية تريد مزيداً من التدهور الاجتماعي والاقتصادي لعلها تقطف ثمار الأزمة وأوجاع اللبنانيين في الانتخابات النيابية المقررة في العام القادم، والتي سيتم على أساسها انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply