وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
لأيام خلت كان الهاجس الاقتصادي والمعيشي يشغل بال اللبنانيين، إلى أن خيم التوتر الأمني على مناطق عديدة من هذا البلد الصغير الذي تتنازعه التجاذبات السياسية والصراعات الاستراتيجية. وإذا كانت جولة العنف قد مرت من دون سقوط ضحايا هذه المرة، فإن استمرار الأزمة ينذر بإمكانية تجدد هذا النوع من الصدامات لاسيما في حال قرر «المنتفضون» العودة إلى قطع الطرقات.
ملامح الفتنة
موجة من التوتراتت المتنقلة، أثارت الهلع في نفوس اللبنانيين وأعادت إلى أذهانهم صوراً بشعة من ذكريات الحرب الأهلية التي عانوا ويلاتها على مدى خمسة عشر عاماً.
«ليلة جسر الرينغ» الطويلة التي استمرت حتى ساعات الصباح، وعاش اللبنانيون كل تفاصيلها مباشرة على الهواء بفضل بعض وسائل الإعلام التي «قامت بواجبها على أكمل وجه» بإيصال الصورة البغيضة لما كان يحصل من كرّ وفرّ بين مجموعتين متقابلتين من الشبان: قاطعو الطريق المنتفضين من جهة، وأنصار متفلتون «للثنائي الشيعي» من جهة أخرى.
وإذا استطاع الجيش أن يفصل بين الطرفين بتشكيل حاجز بشري عازل، فإن العناية الإلهية وحدها هي التي حالت دون وقع المحظور.
إذ أن سقوط أي ضحية من الطرفين يمكن أن يؤدي إلى صراع أهلي بين أبناء الوطن الواحد، لاسيما وأن المواجهة بين الطرفين بدأت سياسية وانتهت مذهبية.
مرّ قطوع الرينغ بخير، لتبدأ ليلة الرصاص الحي في طريق الجديدة، حيث قام عناصر متفلّتون بدخول المنطقة على متن دراجات نارية بأعداد كبيرة، في مشهد استفزازي، أدى إلى تعرضهم لإطلاق نار محدود ليتدخل الجيش مجدداً وينجو اللبنانيون من سيناريو حرب مذهبية…
كرة التوتر، انتقلت بأشكال أخرى إلى بكفيا وبعبدا وعين الرمانة المرتبطة بالذكرى المشؤومة لانطلاق شرارة الحرب الأهلية (بوسطة عين الرمانة)، وهناك كانت أيضاً الليلة طويلة على الوطن بأكمله، وليس فقط على أهالي تلك المنطقة التي كانت خط تماس خلال الحرب الأهلية.
التوتر في عين الرمانة أخذ طابعاً أكثر خطورة، وكاد أن يشعل فتنة طائفية بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة لكن المواجهة انتهت على خير بتدخل الجيش، بل أكثر من ذلك، وُئدت الفتنة في مهدها، حيث نظمت أمهات المنطقتين المتقابلتين (الشياح وعين الرمانة) في اليوم التالي وقفة تضامنية مشرّفة، وزّعن خلالها الورود البيض على أبناء المنطقتين وتبادلنَ العناق، في إعلان صارخ ونابع من القلب عن رفضهنّ للحرب.
كذلك فعلت أمهات طرابلس التي شهدت شبه معركة، باعتداء عدد كبير من الشبان على الممتلكات الخاصة والجيش فرموا عناصره بزجاجات المولوتوف، إثر محاولته منعهم من اقتحام مركز «للتيار الوطني الحر» في المدينة، ما أدى إلى سقوط عدد كبير من الجرحى في صفوف الطرفين.
وإلى بكفيا، التي شهدت أيضاً حادثاً لا يقل خطورة، حيث توجه موكب «للتيار الوطني الحر»، مؤلف من عدة سيارات إلى منزل الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل وأطلقوا هتافات ضده، بعد أن كانت مجموعات من الحراك قد احتشدت قبل ساعات أمام القصر الرئاسي في بعبدا، وفي طريق عودة الموكب اعترضه شبان غاضبون من حزب «الكتائب» ، ووقع إشكال كبير بين الطرفين، وككل مرة تدخل الجيش لحله، لكن هذه المرة بين أبناء الطائفة الواحدة، ليبدو جلياً وبكل وضوح إلى أي مدى بات الانقسام السياسي عمودياً في البلاد.
قطع الطرقات.. استدراج للتقاتل
قطع الطرق من قبل مجموعات من الشبان لا يمكن إغفاله، رغم تبرؤ بعض الحراك منه، نظراً لما يتسبب به من حوادث، كان آخرها سقوط ضحيتين على الطريق الساحلي عند مدخل بيروت الجنوبي، قضيا حرقاً بعدما اشتعلت النيران بالسيارة التي كانا يستقلانها بسبب العوائق التي كانت موضوعة وسط الطريق.
الحادثة المأسوية شغلت البلاد على مدى عدة أيام، وأثارت ردود فعل غاضبة جداً، لم تخلُ من نبرة التهديد لكل من يعاود قطع الطريق ويغطيه، كما دفعت البعض إلى التشكيك في دور الجيش واتهامه بالتقصير في أداء مهامه، مكتفياً بحماية المتظاهرين من دون منعهم من قطع الطرق، كما كان قد تعهد قائد الجيش، باعتبار أن قطع الطرق انتهاك لحق المواطنين بالتنقل كما أنه من أسباب استدراج الفتنة والتوتر.
لعبة حرق الأسماء
بعد تداول اسم الوزير السابق محمد الصفدي وخروجه لاحقاً من بازار التسميات، تردد منذ أيام وبقوة، اسم سمير الخطيب، مرشحاً جديداً لتأليف الحكومة –وهو صاحب شركة «الخطيب وعلمي» للمقاولات الذائعة الصيت في بيروت والتي ارتبط اسمها في كثير من الأحيان بعدد لا بأس له من الصفقات المشبوهة التي لُزّمت لها بالتراضي.
وفي حين بدا أن ترشيح الخطيب ليس سوى استمرار لمحرقة الأسماء، أشارت بعض المصادر إلى أن الخطيب قطع نصف الطريق من خلال المشاورات الجارية مع «الثنائي الشيعي» (حركة أمل وحزب الله) ورئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، وأنه مستمر في مشاوراته، والطريق باتت واضحة أمامه، وأي موقف سواء كان سلبياً أم إيجابياً سيعلن عنه بنفسه في ضوء نتائج لقاءاته واستشاراته.
في السياق نفسه، أروقة بعبدا تنتظر نتائج تلك المشاورات، فاتجاه الأمور سيحسم إن كان رئيس الجمهورية سيدعو إلى الاستشارات النيابية خلال الأيام القليلة المقبلة.
مصدر خاص أكد لـ«صدى الوطن» أن الرئيس الحريري غير زاهد أبداً في قبول التكليف بتأليف الحكومة، لكنه يفعل ما يفعله من «الغنج السياسي» ورفع سقف المطالب رغبة منه في الحصول على أكبر قدر ممكن من شروطه، والتي أهمها عدم وجود جبران باسيل داخل أية حكومة مقبلة.
أما رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل، فقد نُقل عنه ما مفاده أنه إما أن يكون موجوداً هو والحريري معاً في الحكومة المقبلة وإما أن يكونا خارجها معاً.
أما «حزب الله»، حليف «التيار» والمتمسك بسعد الحريري، لما يمثله من حيثية شعبية ودولية، يسعى جاهداً لإيجاد قاسم مشترك بين الطرفين للوصول بالأزمة إلى خواتيمها، فقواعده وإن كان بعيداً نسبياً عن كل ما يجري من توترات، فهو من دون شك يتشارك مع كل اللبنانيين المعاناة نفسها والهموم نفسها، لذلك، الحزب مطالب بطبيعة الحال بالسعي الحثيث إلى تهيئة الظروف الملائمة للخروج من عنق الزجاجة، حتى لو تطلب الأمر تقديم بعض التنازلات.
لا خروج من الشارع قبل تحقيق المطالب
يستغرب النائب عن حزب «الكتائب» اللبنانية الياس حنكش، المسار الذي يسلكه تأليف الحكومة، معتبراً أن البلاد تتجه نحو الانهيار وأن الجوع بدأ يطرق أبواب الناس، فيما البعض يضيّع الوقت بالتشاور حول أسماء الوزراء قبل الاتفاق على اسم الرئيس المكلف، مؤكداً عدم وجود سبب وجيه للقيام بذلك، بل يكفي أن تستجيب السلطة لمطلب الشعب وتأتي بحكومة من التكنوقراط، بعيداً عن المحاصصة والاصطفافات السياسية.
ويشير حنكش إلى الحاجة الماسة في هذا الظرف، إلى شخصية توحي بالثقة للشعب وللمجتمع الدولي، وأن «الثورة» التي حصلت ولم يكن أحد يتوقع حدوثها، لم يعد في الإمكان تجاوزها، رافضاً ربط الأزمة المعيشية المتفاقمة باستمرار الحراك.
وكطرف داعم للحراك، يعتبر النائب الكتائبي، أن هذا الحراك لن يخرج من الشارع حتى تحقيق مطالبه مهما بلغ تعنت السلطة.
ومن باب وضع الأمور في نصابها، على حد تعبيره، يقول النائب حنكش إن قطع الطرقات في بداية الثورة أدى إلى إسقاط الحكومة، أما اليوم فقد أصبح هناك توجه إلى الاعتصام أمام المرافق العامة وإقفالها، لكنه اعتبر أن قطع الطرقات يحدث بطريقة عفوية غير مخطط لها لعدم وجود قيادة لهذا الحراك أصلاً، رادّاً الأمر إلى تعنت السلطة وعدم تجاوبها مع مطالب المنتفضين، وهو ما يدعوهم الى قطع الطرقات وغير ذلك من مظاهر الاحتجاج، مستنكراً أي اعتداء على الجيش من قبل أي كان، في إشارة إلى ما حدث في طرابلس ليل الثلاثاء–الأربعاء.
أما لدى سؤاله عن الإشكال الذي وقع في بكفيا بين مناصري «التيار الوطني الحر» ومناصري «حزب الكتائب» الذي ينتمي إليه، يقول النائب حنكش إنه يصب في خانة الفتنة المتنقلة وأمر العمليات للدخول في مواجهة مع الثوار أينما وُجدوا في مختلف المناطق، غامزاً من قناة السلطة، وهو يضعه في إطار رد الفعل على الاستفزازات التي قام بها «العونيون» من هتافات عدائية وشتائم، وأن الأمر كان مرشحاً للتفاقم لولا مغادرة الموكب «العوني» بحماية الجيش اللبناني عبر طريق فرعي، بعيداً عن الحشود التي كانت تنتظره.
النائب حنكش يؤكد أن الحل الوحيد لكل ما يحدث من انهيار اقتصادي وتوترات أمنية، هو بالذهاب فوراً إلى استشارات نيابية تأتي بحكومة من الاختصاصيين الأكفاء، يستطيعون النهوض بالبلاد، أو على الأقل لإنقاذها من الانهيار التام.
ولدى سؤاله عن مآلات هذا الحراك وعن توقيت خروجه من الشارع، يصر حنكش على أن الحل الوحيد لإنهاء التحرك والخروج من الشارع هو في استجابة السلطة للمطالب المحقة التي ينادي بها المنتفضون، رافضاً تحميلهم ولو جزءاً بسيطاً مما آلت إليه الأمور على الصعيد الاقتصادي.
لبنان… أسير التوازنات الإقليمية
غلاء فاحش في الأسعار وانهيار في سعر صرف الليرة مقابل الدولار بلغ نحو خمسة وثلاثين بالمئة، والأرقام في تفاوت يومي…
كل من يراقب الوضع في لبنان عن كثب، يلاحظ أن هذا البلد يمر بمنعطف خطر يستلزم معالجات جدية، وأنه ليس أمام حدث طارئ، بل هو إرث عقود طويلة من الفساد والهدر ونهب الثروات والاهتراء السياسي. وطبعاً لا يمكن فصل ما يجري في لبنان عما يجري في كل المنطقة، وإذا نظرنا الى ما يحدث اليوم من احتجاج أو انتفاضة أو غير ذلك من المسمّيات، ليس «ثورة»، لأن الثورة هي الوجه الآخر للانقلاب، وما جرى من نزول إلى الشارع كان ردة فعل على واقع مزرٍ. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا اليوم؟ هذا الحراك ليس بمنأى عما يجري في كل المنطقة، ومن الصعب جداً بل يكاد يكون من الغباء، تقييم الواقع اللبناني بنحو مستقل.
لطالما عاش لبنان أسيراً للتوازنات في محيطه، وهو اليوم أمام أزمة قد تكون مستدامة وغير قابلة للحل إذا لم يكن العلاج سريعاً. ثمة رأيان متلازمان في هذه الأزمة هما: أحقية المطالب والاستهداف الخارجي، وهو ما يدخل المشهد في حالة عميقة من الفصام… علاجها ربما ينجح، لكنه حتماً سيأخذ وقتاً طويلاً…
Leave a Reply