أزمة سياسية تفاقم المعضلة الاقتصادية على وقع الحراك الشعبي
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
انتقل لبنان إلى مرحلة دقيقة وخطيرة من تاريخه، مع دخول «الحراك الشعبي» شهره الثاني واستمرار قطع الطرقات وإغلاق المصارف وسط دعوات المتظاهرين إلى محاربة الفساد وتحسين الخدمات والإسراع في تشكيل حكومة «تكنوقراط» لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة، بينما تدخل البلاد نفق أزمة سياسية مع إصرار رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري على تشكيل حكومة من خارج التمثيل السياسي في البرلمان، وهو مطلب لن يرضخ له بسهوله، رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحلفاؤه الفائزون بالانتخابات النيابية الأخيرة، ولذلك من غير المستبعد أن تتجه الأمور إلى مزيد من التصعيد وسط تساؤلات دستورية حول المهلة المعطاة لرئيس الجمهورية لتكليف رئيس الوزراء الجديد.
معالم الأزمة السياسية
تحت ضغط الشارع الذي رفع شعار «كلن يعني كلن»، استقال الحريري من رئاسة الحكومة، دون التشاور مع عون، رغم تحذير الأخير من مغبة الاستقالة دون التوافق على البديل لأن ذلك قد يُدخل لبنان في نفق مجهول بسبب الخلاف حول شكل الحكومة وسياساتها.
وبالفعل فإن العقدة الآن، باتت تتركز حول هاتين النقطتين، فهل تكون الحكومة سياسية، أو مختلطة بين سياسية وتكنوقراط (تكنوسياسية)، بينما يطالب الحريري –كما المتظاهرين–بحكومة تكنوقراط صرفة على الرغم من أن ذلك ينطوي على تناقض لافت مع دستور الطائف الذي وضع السلطة السياسية في مجلس الوزراء مجتمعاً.
عون، من جانبه، أعلن في مقابلة تلفزيونية عن رغبته بتشكيل حكومة تمثل التوازنات السياسية في البرلمان على أن تتشكل من أصحاب الاختصاص ومن شخصيات من خارج المجلس النيابي، ولكن القرار لا يعود له وفق الدستور. أما الحريري –وعلى الرغم من دعم عودته لرئاسة الحكومة من قبل «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» وحركة «أمل»، إلا أن هذه الأحزاب ترفض مثل هذه الحكومة.
تردّد الحريري
وأمام تردّد الحريري في حسم قراره حول شكل الحكومة، فإن تأخير البدء بالاستشارات النيابية الملزمة وجه غضب الشارع نحو الرئيس عون رفضاً لمماطلته في تكليف رئيس حكومة جديد للبلاد.
لكن هل يقبل الشارع المنتفض بعودة الحريري رغم شعار «كلن يعني كلن»؟
في الواقع، يبدو أن المتظاهرين أنفسهم قد خفضوا سقفهم، لجهة المطالبة بإسقاط النظام الطائفي، أو رفض الطبقة السياسية بأكملها تحت شعار «كلن يعني كلن»، لأن موازين القوى الشعبية على الأرض مازال لصالح قوى السلطة، بالرغم من خروج مئات الآلاف من المواطنين للمطالبة بحقوقهم، التي أقرّ المسؤولون بها وحاولوا الاستجابة لها عبر «الورقة الإصلاحية» التي أصبحت في مهب الريح مع استقالة الحريري، والتي كانت كفيلة بسد العجز في الموازنة على حساب المصارف.
وإذا كان استمرار الحراك الشعبي قد زاد الوضع المالي والاقتصادي تفاقماً، غير أن التظاهرات بدأت تعطي نتائج إيجابية، لجهة تحريك القضاء لملفات فساد، ودعوة نادي القضاة إلى تطهير الجسم القضائي من الفاسدين فيه (حوالي ثلث 550 قاضياً)، إضافة إلى إقدام بعض الأحزاب وكتل نيابية على رفع السرية المصرفية عن حساباتهم، وهذا يصب أيضاً في إيجابيات الحراك الشعبي.
الأزمة المالية
مع استمرار إغلاق المصارف بحجة الوضع الأمني، علماً بأنها لم تقفل أبوابها قط لمثل هذه المدة حتى خلال الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، تتفاقم أزمة أخرى ظهرت مع إرتفاع سعر الليرة أمام الدولار، الذي جفّ من السوق، وتحوّل إلى السوق السوداء بغياب الرقابة الحكومية ليلامس سعر الدولار حدود الألفي ليرة.
وقد تعززت مخاوف اللبنانيين عندما فتحت المصارف أبوابها لفترة وجيزة، ووضعت سقفاً للسحوبات، مما شكّل قلقا لدى المواطنين الذين تهافتوا لسحب أموالهم ووضعها في المنازل وقدرت السحوبات بحوالي ثلاثة مليارات دولار، لتتفاجأ البنوك بنقص في السيولة وهو ما انعكس على أسعار المحروقات والمواد الغذائية التي اندفع المواطنون لشرائها، مع انتشار الشائعات حول فوضى مالية ومعيشية.
وقد حاول عون، الوقوقف على الأزمة بعقد اجتماع مالي–مصرفي في القصر الجمهوري دون حضور الرئيس الحريري، الذي قرر الابتعاد عن الأضواء خلال هذه المرحلة. وطلب عون من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تطمين اللبنانيين على سعر عملتهم الوطنية، وعلى رواتبهم ومدخراتهم كما على قدرتهم الشرائية. ولكن ذلك يبدو متعذراً مع استمرار الأزمة السياسية والمخاوف من انهيار مالي وشيك.
النموذج اليوناني أو الفنزويلي؟
منذ سنوات، ومع ارتفاع الدين العام وخدمته والتي بلغت في موازنة عام 2019، حوالي 5.5 مليار دولار، وهو يستنزف الموازنة بحوالي 35 إلى 40 بالمئة منها، وقد جرى تشبيه لبنان، بأنه يسلك طريق اليونان، التي غرقت في الديون، وأصبحت دولة مفلسة، وهو ما كان يجري التحذير منه منذ سنوات، بأن لا يتحوّل لبنان إلى النموذج اليوناني، في إفلاس دولته، بسبب سياسة الاستدانة التي اتّبعت منذ وصول الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم في تسعينيات القرن الماضي عندما كان لبنان دولة بلا ديون تقريباً، حيث انتهت الحرب وكان الدين العام بحدود 900 مليون دولار فقط.
لكن وتحت شعار الإعمار، بدأت حكومات الحريري الاستدانة، ومعها دخل لبنان مصاف الدول المستدينة، وقد جرى تحذير الحريري من ذلك، من نواب أبرزهم الرئيسان حسين الحسيني وسليم الحص والنواب نجاح واكيم وزاهر الخطيب ونسيب لحود وغيرهم من خبراء، بأن الاستدانة دون وجود مداخيل، ستؤدي إلى تفاقم أزمة الدين وخدمته، وها قد بلغ اليوم نحو 100 مليار دولار فيما لا تزال البنى التحتية والخدمات في حالة يرثى لها، وقد لعب مصرف لبنان دوراً رئيسياً لجهة التشجيع على الاستدانة، إلى أن أصبحت الأزمة المالية والاقتصادية سيفاً مسلطاً على لبنان، بينما يعاني الشعب من تدهور حاد في الأوضاع المعيشية بعدما استُنزف لسنوات بالرسوم والضرائب المجحفة، لتأمين مداخيل للدولة التي راحت تنفق من دون موازنة ولا حسيب أو رقيب منذ العام 2005 ولغاية وصول عون إلى الرئاسة.
أما وقد لا يعود الحريري إلى الحكومة، ومعه وعود مؤتمر «سيدر» لإنقاذ لبنان من ضائقته الاقتصادية، فإن النموذج اليوناني نفسه قد يصبح مستبعداً بينما يلوح شبح النموذج الفنزويلي في الأفق.
فلبنان ليس مهدداً بإفلاس حكومته فقط، بل يحاصر المجتمع أيضاً خطر الفقر والجوع بسبب غلاء الأسعار، وانخفاض النمو إلى صفر بالمئة، وارتفاع نسبة البطالة، وهذا من شأنه أن يؤدي –كما في النموذج الفنزويلي– إلى نقص حاد بالمواد الأساسية، وهو ما بدأت تظهر ملامحه في أزمة المحروقات والطحين والخبز والدواء، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بحوالي 50 بالمئة، لتنعكس سلباً على القدرة الشرائية لدى المواطنين، فيما تتوقف المؤسسات عن العمل، ويلجأ بعضها إلى صرف الموظفين وتخفيض الرواتب، بينما يتعثر دفع الرواتب بمئات المؤسسات، بسبب إغلاق المصارف.
الضغوط الخارجية
الأزمة السياسية–الدستورية التي ترافق تشكيل الحكومة، على وقع أزمة مالية–اقتصادية–معيشية، ترافقها أيضاً ضغوط غربية–خليجية لإخراج «النفوذ الإيراني» الذي يمثّله «حزب الله» في لبنان.
فبالنسبة لتلك الجهات الخارجية التي تتسلح بالمال والاقتصاد، فإن المقاومة التي استطاعت تحرير الأرض عام 2000، بدعم من إيران وسوريا، غير مرغوب بها في أية حكومة قادمة في لبنان. وهو ما عبر عنه بصراحة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي قال إنه على لبنان أن يتحرّر من وجود «حزب الله» الذي تصنّفه واشنطن منظمة إرهابية، بجناحيه العسكري والسياسي، وقد أصدرت في الآونة الأخيرة، عقوبات تطال أفراداً ومسؤولين في «حزب الله» أو داعمين له، وكان آخر مَن ورد في لوائحها، رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» البرلمانية النائب محمد رعد، والعضو في الكتلة النائب أمين شري إضافة إلى المسؤول الأمني وفيق صفا، من ضمن مساعي واشنطن لتضييق الخناق لإضعاف «حزب الله» ومحاصرته مالياً بالتزامن مع عقوبات مشددة على إيران الممول الأساسي له.
وفي إطار هذه الضغوط، تشترط الإدارة الأميركية، أن تتشكل الحكومة دون وجود «حزب الله» فيها أو مَن يمثله غير أن رئيس الجمهورية ردّ بأن الحزب يمثل ثلث الشعب اللبناني وله الحق في المشاركة بالحكومة بناء على نتائج الانتحابات النيابية التي أعطته كتلة وازنة.
وسبق لواشنطن أن ضغطت كي لا يتمثّل «حزب الله» في حكومات سابقة، لكنها فشلت، بعد أن أبلغ الرئيس الحريري مسؤولين أميركيين، بأن «حزب الله» فاز في الانتخابات النيابية مع حليفته حركة «أمل» بالمقاعد الشيعية، وحاز هذا التحالف، نحو 600 ألف صوت ومن غير الممكن إلغاء هذه الشريحة الواسعة من المواطنين.
وهذا الموقف الذي كلف الحريري استقالة جبرية من الرياض قبل أكثر من سنة، هو ما يراهن عليه رئيس مجلس النواب نبيه برّي ومثله «حزب الله»، و«التيار الوطني الحر» لإعادته إلى سدة الحكم على أن تكون الحكومة سيادية، لا تخضع للشروط والإملاءات الخارجية التي يُعمل على فرضها على لبنان في اقتصاده وأمنه.
فهل يتحرر الحريري من تلك الضغوط ويشكّل الحكومة، أم ليس أمام العهد سوى اختيار بديل له من أجل تشكيل حكومة أكثرية لمحاولة إنقاذ البلاد من عنق الزجاجة؟
Leave a Reply