عماد مرمل – «صدى الوطن»
اخرجت سلسلة الرتب والرواتب المخحصصة لموظفي القطاع العام في لبنان «جمر» التناقضات الاقتصادية والاجتماعية من تحت الرماد إلى فوقه، حتى كادت هذه السلسلة تتحول من حل مفترض إلى أزمة وطنية، على وقع تحركات شعبية واعتصامات نقابية في الشارع، تنادي بالحقوق المهدورة وترفض «تقطيرها».
وبرغم المحاولات المتكررة من قبل مجلس النواب لإقرار هذه السلسلة واصدارها في قانون، على مدى خمس سنوات من الكر والفر، إلا أنه في كل مرة كان يتراجع عن البت بها بحجج شتى، مفضلاً الهروب إلى الأمام، على إيفاء الحقوق لأصحابها، كما حصل قبل أيام حين طار نصاب الجلسة التشريعية بسحر ساحر، عندما اقتربت لحظة الحقيقة.
والمفارقة أن الدولة تتهيب حسم «السلسلة»، نتيجة كلفتها المالية الباهظة في ظل العجز المتراكم الذي يستنزف الخزينة العامة، حتى إذا ما حاولت تقليص هذا العجز لجأت إلى استخدام «حيل ضريبية»، بينما تتجاهل في المقابل امتيازات «حيتان المال» الذين تحميهم الاعفاءات الضريبية والحصانات السياسية والطائفية، وتهمل مزاريب الهدر والفساد المتدفقة بغزارة من خلال الصفقات والمشاريع المشبوهة، وأعمال التهريب في المرفأ والمطار، والتهرب الضريبي، والانفاق غير المجدي على جمعيات لزوجات الوزراء والنواب، وتسديد بدلات استئجار المباني الحكومية بمبالغ باهظة.
تتفادى الدولة اللبنانية الخوض في هذه المجالات «الخصبة» التي تسمح بتحقيق إيرادات للخزينة من دون الحاجة إلى رفع سقف الضرائب، فتلف وتدور ثم تعود إلى المواطن العادي لتثقل كاهله بأعباء إضافية، تصيبه في حياته اليومية واحتياجاته الضرورية، ما ولّد خلال الأيام الماضية ردود فعل شعبية غاضبة، اتخذت شكل تحركات احتجاجية في الشارع وانفعالات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أن غياب الرئيس نبيه بري عن ادارة جلسة «السلسلة» بسبب وفاة صهره ترك تداعيات على مسار مداولاتها، وأدى إلى تفاقم الانفلات في إيقاعها، لاسيما أن نائب الرئيس فريد مكاري الذي ترأس الجلسة يفتقر إلى الخبرة المطلوبة والحنكة الضرورية اللتين يملكهما بري في هذا المجال.
عوارض جانبية
ولما كانت الدولة قد لجأت إلى أسهل الطرق لزيادة المداخيل، واعتمدت خيار فرض ضرائب اضافية على اللبنانيين لتمويل كلفة «السلسلة» التي ترتب على الخزينة أعباء بقيمة 1200 مليار ليرة، فقد تولد عن ذلك، العوارض الجانبية الآتية:
– صدام سياسي عنيف في مجلس النواب خلال جلسة دراسة «السلسلة» وما بعدها، بين كتلة حزب «الكتائب» برئاسة سامي الجميل والاكثرية النيابية، وقد بلغت المواجهة حد توجيه نائب رئيس المجلس فريد مكاري اتهامات قاسية إلى الجميل بالكذب واطلاق الشائعات، فيما لوّح رئيس الحكومة سعد الحريري بطلب رفع الحصانة عن أي نائب يثبت أنه يضخ أخباراً كاذبة حول النية بفرض ضرائب غير ملحوظة حكومياً، ما دفع الجميل إلى رد حاد اتهم فيه السلطة بغض الطرف عن مكامن الهدر والفساد، ومسايرة الشركات الكبرى التي تلجأ إلى التهرب الضريبي.
– اندلاع مواجهة حامية بين السلطة والمجتمع المدني الذي شن ناشطوه حملات عنيفة على بعض السياسيين بسبب استسهالهم زيادة الضرائب بينما يتجاهلون ملفات الفساد والهدر التي يمكن، لو ضُبطت، أن تحقق وفراً مالياً يكفي لتمويل «سلاسل» بدل «السلسلة» الواحدة. وتركزت سهام الناشطين على الوزراء والنواب الذين جرى اتهامهم بالفساد والارتكابات، ورفع أحد المتحمسين لافتة اعتبرت أنه يوجد في مجلس النواب 128 حرامي، الأمر الذي دفع الرئيس الحريري ونائب «القوات اللبنانية» أنطوان زهرا إلى شن هجوم مركز على هؤلاء الناشطين وتهديدهم بملاحقتهم قضائياً بسبب «الخطاب المبتذل» المستخدم من قبلهم، وفق التصنيف الرسمي له.
– شعور جزء واسع من اللبنانيين بأن «السلسلة» ستمول من جيوبهم وعلى حسابهم، بفعل الزيادة الضريبية، الأمر الذي أوجد نفوراً بين هذا الجزء وبين القطاعات المستفيدة من المفاعيل المالية لتلك «السلسلة»، حتى كاد أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى يواجهون بعضهم البعض، في حين أنهم جميعاً من أشد المتضررين من الواقع الاقتصادي.
– اشتداد حدة الصراع الطبقي من خلال تعميق الشرخ بين الموظفين والمعلمين والإدرايين والاساتذة العاملين في القطاع الرسمي من جهة وبين الهيئات الاقتصادية التي تضم رجال الأعمال والتجار والمصارف من جهة أخرى، بعدما رفضت تلك الهيئات تحميلها أعباء ضريبية واسعة، متسلحة بذريعة أن الانكماش الاقتصادي منذ سنوات لا يسمح بإرهاق المؤسسات بمزيد من الضغوط المالية، ومحذرة من أن مؤسسات عدة مهددة بالافلاس وأن إثقالها بحمولة زائدة سيؤدي إلى إقفالها وتشريد مئات العمال والموظفين. وفي المقابل، يعتبر أهل القطاع العام أن أصحاب رؤوس الأموال في القطاع الخاص هم الاقدر على تحمل أعباء «السلسلة» والمساهمة في تمويل كلفتها، عبر التنازل عن قليل من فائض أرباحهم.
– تهديد الضرائب والرسوم المقترحة لبنية الطبقة الوسطى التي تشكل في العادة الضمانة للاستقرار السياسي والتوازن الاجتماعي، انطلاقاً من كونها صمام أمان في أي مجتمع، وبالتالي فان تآكلها تحت وطأة الضغوط المتراكمة، يمكن أن يرتب تداعيات وطنية في أكثر من اتجاه.
– زج سلسلة الرتب والرواتب في بازار المزايدات مع قرب موعد الانتخابات النيابية، بحيث أن هناك من يؤكد على أن عدداً من النواب رفض في اجتماع الهيئة العامة للمجلس تأمين التمويل من خلال اجراءات ضريبية، مع العلم أنه كان قد وافق عليها سابقاً في اللجان المشتركة، الأمر الذي دفع بعض القوى السياسية إلى اتهام هؤلاء النواب باستخدام الشعبوية لاستقطاب الراي العام واستمالته على مسافة أشهر من الاستحقاق الانتخابي.
Leave a Reply