يعيش لبنان في حرب أهلية باردة، منذ العام 2005، وإثر إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تبع ذلك من عمليات إغتيال وتفجير وإشتباكات، على خلفية الإنقسام السياسي الداخلي بين 8 و 14 آذار، حول الموقف من سلاح المقاومة، والعلاقة مع سوريا، والصراع على السلطة والاستئثار بالقرار، وقد زاد من منسوب النزاع العدوان الإسرائيلي على لبنان ومقاومته في صيف 2006، الذي دام 33 يوماً، بطلب أميركي كي ترفع المقاومة الرايات البيضاء وتسلّم سلاحها كما كان يطالب فريق 14 آذار بناء على قرار لمجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559، الذي دعا الى نزع سلاح المقاومة، ولما فشل بذلك وأخفقت «إسرائيل» أيضاً، تمّ تحريك المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري بوجه المقاومة، بعد اعتقال الضباط اللبنانيين الأربعة فيما كان يسمى النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، واتّهم النظام السوري كما حلفاء له في لبنان، بأنهم وراء الإغتيال، لكن الإنكشاف السريع لشهود الزور وتصنيعهم من قبل أجهزة أمنية ومخابراتية لبنانية وأجنبية، زادت من الإنقسامات التي وصلت الى الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة وإستقالة وزراء حركة «أمل» و «حزب الله» منها، واللجوء الى الاعتصام من قبل 8 آذار، ورفع التصعيد بإتجاه التظاهر والعصيان وقطع الطرقات، فوقعت صدامات بين الطرفين، ونشأت خطوط تماس وامتدت المعارك متقطعة حتى 7 أيار 2008 عندما قام «حزب الله» وحلفاؤه بعملية عسكرية محدودة في بيروت وبعض مناطق الجبل ردّاً على قرار حكومة السنيورة بإزالة شبكة إتصالات المقاومة، وهو سلاحها الذي لا يقل أهمية عن السلاح الحربي.
أنتجت أحداث أيار 2008، تسوية سياسية داخلية بمبادرة قطرية مدعومة دولياً وإقليمياً وعربياً، أوصلت الى رئاسة الجمهورية العماد ميشال سليمان وحكومة فيها ثلث ضامن لقوى 8 آذار و «التيار الوطني الحر»، وسهّلت حصول إنتخابات نيابية في العام 2009 وفق قانون الستين معدّلاً بإتفاق الدوحة الذي منع على اللبنانيين اللجوء الى سلاحهم لحل خلافاتهم، وتزامن ذلك مع مصالحة سعودية – سورية، كان لها إنعكاس إيجابي على لبنان، وأنتجت مصالحة بين الرئيس بشار الأسد والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، وتوّجت هذه المصالحة بحكومة وحدة وطنية برئاسة الحريري الذي زار دمشق، وعاش اللبنانيون فترة هدوء أمني واستقرار سياسي دام من نهاية العام 2009 حتى مطلع العام 2011، عندما وقع الخلاف حول شهود الزور الذين اعترف الحريري بوجودهم وأنهم ضللوا التحقيق كما آل الحريري والشعب اللبناني، لكنه رفض تقديمهم الى المحاكمة وإحالتهم الى المجلس العدلي مع مَن حرّضوهم ودفعوهم الى الإدلاء بشهادات مزوّرة وكاذبة، لأن مَن ستطالهم المحكمة هم أركان الحريرية السياسية من وزراء ونواب وضباط وإعلاميين إلخ… فلم يستجب رئيس الحكومة السابق لطلب قوى 8 آذار باتخاذ قرار في الحكومة بإحالة شهود الزور الى المحاكمة فاستقالوا منها مع الوزير الملك عدنان السيد حسين، وتزامنت استقالة الحكومة في أثناء لقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما بالرئيس الحريري، الذي تخلى عنه حليفه النائب وليد جنبلاط وسمّى الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، في وقت كانت تشهد بعض الدول العربية حراكاً شعبياً في تونس ومصر واليمن وليبيا، وفسّر البعض ما حصل أنه سقوط لحكم العائلات السياسية من آل مبارك في مصر وبن علي في تونس وصالح في اليمن والقذافي في ليبيا والحريري في لبنان، إلا أن أفول الحريرية السياسية قابلها اضطراب الوضع في سوريا، في نهاية آذار 2011، في وقت كان الرئيس ميقاتي يعمل لتشكيل حكومته التي أخّر رفض فريق 14 آذار دخولها من اطالة عمر ولادتها، فتألفت من قوى 8 آذار وما سمي بـ «الوسطيين» من الرئيسين ميشال سليمان وميقاتي والنائب جنبلاط الذي رفع شعار الاستقرار لقبوله الإشتراك في الحكومة، في وقت كان «الآذاريون» يحركون الشارع لإسقاط الحكومة، وكانت أشد المعارك تحصل في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، وقد بلغت جولاتها الـ 16، مع تأزم الوضع في سوريا ومشاركة أطراف لبنانية في المعارك الدائرة فيها، فاعترف «حزب الله» إنه يقاتل دفاعاً عن المقاومة، وما يمثله النظام من دعم وعمق لها وخط تواصل مع إيران، في حين ذهبت قوى إسلامية أصولية جهادية وسلفية الى القتال الى جانب «جبهة النصرة» وتنظيمات إسلامية في سوريا، وبدأت انعكاسات الأزمة السورية تلقي بثقلها على الداخل اللبناني، بعد أن كانت الحدود اللبنانية – السورية تشتعل من وقت الى آخر، وتسقط القذائف على القرى والبلدات، كما أن حركة المسلحين وانتقال السلاح بين الجانبين، لم تتوقف، كما شكّل ضغط النازحين اضطراباً أمنياً في أكثر من منطقة، إضافة الى ما شكّلوه من أزمة اجتماعية واقتصادية.
ولقد حاولت الحكومة اللبناية برئاسة ميقاتي النأي بنفسها عن الأزمة السورية، وقد شجعتها دول عربية وأجنبية على أدائها، لكن القوى السياسية والحزبية، لم تنأَ بنفسها، بل تورّطت فيها، فأعلن «تيار المستقبل» أنه داعم للمعارضة السورية بالحليب والبطانيات وليس بالسلاح، وفق ما أعلن النائب عقاب صقر الذي كلّفه الرئيس الحريري التنسيق مع المعارضة السورية وأتّخذ من اسطنبول مقراً له إضافة الى بعض العواصم الأوروبية، في حين كانت القوى السلفية ترسل المسلحين الذين سقط منهم المئات في تلكلخ والقصَير ومدن سورية أخرى، وهو ما كان يُشعل الإشتباكات في طرابلس واحتكاكات في صيدا كان يقوم بها الشيخ أحمد الأسير، إضافة الى أعمال خطف في البقاع، وتحويل عرسال الى حاضن للمسلحين السوريين ومركز تجمّع لتنظيم «القاعدة»، وهو ما أدى الى احتقان سياسي وشعبي كان يأخذ طابعه المذهبي في منطقة يتعايش فيها الشيعة والسّنّة مع المسيحيين.
فالإضطرابات الأمنية، هي ما يعيشه اللبنانيون الذين يخشون من انفجار أمني واسع مع كل حادث يقع، ولكن وجود قرار دولي بعدم تفجير حرب أهلية في لبنان، هو ما يمنع حصولها، كما أن أطرافاً لبنانية وتحديداً «حزب الله» لا يرغب في الإنزلاق نحو فتنة داخلية، يجري العمل على تأجيجها من قبل قوى سلفية رفعت من خطابها التكفيري والمذهبي ضد «حزب الله» والشيعة، وبات خطرهم أمراً واقعاً، بعد أن سيطروا على طرابلس خصوصاً والشمال عموماً، إضافة الى هيمنتهم على أجزاء كبيرة من البقاعين الأوسط والغربي، كما في محاولة الأسير إقتطاع صيدا أو أحياء منها، بعد أن تغلغلت القوى الإسلامية المتطرفة في المخيمات الفلسطينية لاسيما في عين الحلوة.
هذه التطورات الأمنية، تصب كلها في إستهداف المقاومة وإغراقها في مستنقع المذهبية لإنهاء وجودها ودورها، حيث جرى إستدراجها الى القصير للقتال الذي توقف بعد ان هزم الجيش السوري المسلحين وأخرجهم منها، كي تمنع وصول التكفيريين الى الداخل اللبناني، وللدفاع عن القرى اللبنانية في الجانب السوري، ولمنع حصول الفتنة التي تأمّنت الأرضية لها، بالتحريض والتعبئة والتزود بالسلاح والمال، لكن بحاجة الى عود ثقاب كي تشتعل، وهو بيد دول خارجية بدأت تمهّد لها بعض دول الخليج التي وصفت في مؤتمرها الأخير «حزب الله» بالمنظمة «الإرهابية»، وسيتبع ذلك أن لبنان بات يقترب من الحريق السوري الذي تمّ التحذير من أنه سيمتد الى دول الجوار، ولن يكون لبنان بمنأى عنه، وهو أكثر الدول تأثراً به، وأول التأثير السياسي كان بالتمديد لمجلس النواب وكان السبب الأمني أحد الموجبات لصدور قانون زيادة عمر المجلس من أربع سنوات الى خمس سنوات وخمسة أشهر، وهو ما أقلق اللبنانيين أكثر على مصيرهم الوطني، مع سقوط صواريخ على الضاحية الجنوبية، ورفع «حزب الله» من إستنفاره الأمني وجهوزيته اللوجستية تحسّباً لسيارات مفخخة تستهدف مناطق تواجده ومراكزه، إضافة الى توسع القصف بإتجاه مناطق محاذية لبعلبك بعد الهرمل، مع رصد الأجهزة الأمنية لتسلل وتغلغل عناصر من «جبهة النصرة» الى مناطق محاذية للضاحية الجنوبية، لإشعال معارك معها.
وإن أخطر ما يحصل هو أن «السلفيين» يركزون حملة على الجيش لتشويه صورته، وإعتباره منحازاً الى «حزب الله» والشيعة، والطلب الى الضباط والجنود السّنّة فيه الانشقاق عنه، كما حصل في سوريا، وعدم الخدمة تحت إمرة قائد جيش «نصراني»، وكل ذلك من أجل تعطيل دور الجيش في الحفاظ على الأمن والسلم الأهلي، ونشر الفوضى المسلحة من أجل إقامة «إمارات إسلامية»، وهي محاولة حصلت في ثمانينات القرن الماضي في طرابلس، وتمّ اقتلاعها من قبل الجيش السوري الذي كان متواجداً في الشمال بالتعاون مع أحزاب لبنانية حليفة.
إن «السلفيين» في لبنان، بدأوا يعبرون عن حضورهم في الشارع السّنّي، وهم يملأون الفراغ الذي أحدثه غياب «تيار المستقبل» وضعف الأطراف السّنّية في 8 آذار في تأكيد وجودها، لا بل قامت القوى الإسلامية المتطرفة باجتثاث كل مَن يؤيد سوريا والمقاومة من طرابلس، ومحاصرتهم في عكار، ومحاولة إغتيالهم في صيدا والبقاع كما حصل مع الشيخَيْن ماهر حمود وابراهيم البريدي، وهما من أعضاء «تجمع العلماء المسلمين» الداعم للمقاومة وله علاقة مع إيران ويضم رجال دين سُنّة وشيعة، ويتصدى للتكفيريين وأصحاب دعوات الفتنة، وأن محاولتي اغتيالهما تقع في إطار ترهيب كل مَن يحاول من «أهل السّنّة» الخروج عن الجماعة والسير مع «الروافض الشيعة»، وهذه الأحداث قد تفتح الباب لصراع مذهبي بات يتحسّسه اللبنانيون ويخشون وقوعه لأنه سيكون مدمراً أو قاتلاً، إنها حرب أهلية باردة تنتظر مَن يحوّلها ساخنة.
Leave a Reply