كمال ذبيان – «صدى الوطن»
حاول رئيس مجلس النواب نبيه برّي أن «يلبنن» إنتخابات رئاسة الجمهورية، فأعادها الى طاولة الحوار، كبند أول للنقاش، بعد أن تعطّل إجراء الإنتخابات 26 جلسة، ومضى عام ونصف العام، والشغور الرئاسي يخيّم على قصر بعبدا الذي يشهد للمرة الثالثة فـي تاريخ لبنان، غياب رئيس الجمهورية عنه.
المرة الأولى كانت فـي العام 1988 بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل فـي العام 1988، ولم ينتخب خلف له إلا فـي تشرين الأول من العام 1989، ففاز الرئيس رينيه معوض بالرئاسة فاغتيل يوم عيد الإستقلال فـي 22 تشرين الثاني من العام نفسه ليخلفه الرئيس الياس الهراوي الذي مُدّد له لمدة ثلاث سنوات ليخلفه الرئيس إميل لحود، ومُدّد له أيضاً ثلاث سنوات، ليغادر القصر الجمهوري دون أن يُسلم المهام إلى خلف له، فاستمرت الرئاسة الأولى شاغرة مدة ستة أشهر لينتخب الرئيس ميشال سليمان، بعد إتفاق الدوحة، وتنتهي ولايته فـي 25 أيار 2014 دون أن يُمدّد له، أو ينتخب رئيس للجمهورية.
اليوم الفرصة تبدو سانحة لأن يُصنع الرئيس فـي لبنان، لا فـي دوائر القرار الخارجي، كما جرت العادة منذ الإستقلال فـي العام 1943، حتى آخر رئيس، إذ مرّ 12 رئيساً للجمهورية، كان يتم اختيارهم من قبل الدول المؤثرة فـي لبنان أما مجلس النواب فكان دوره ينحصر بإنتخاب المرشح الذي تسميه الدول المتنفذة، فرشحت بريطانيا بشارة الخوري، وبريطانيا وسوريا كميل شمعون، واميركا ومصر فؤاد شهاب وشارل حلو، والحياد الدولي سليمان فرنجية، وسوريا وأميركا الياس سركيس، و«إسرائيل» بشير وأمين الجميّل، وأميركا والسعودية وسوريا رينيه معوض ثم الياس الهراوي، وسوريا إميل لحود، وأميركا وفرنسا وقطر ومصر والسعودية وتأييد سوريا ميشال سليمان.
ففرصة انتخاب رئيس للجمهورية بقرار لبناني، متاحة، لو أن القوى السياسية اللبنانية الفاعلة تملك قرارها الذاتي، وليست مرتبطة بمحاور خارجية، وقد سعى الرئيس برّي مع تعيين أول جلسة إنتخاب لرئيس الجمهورية أن يكون الإنتخاب لبنانياً، مع إنشغال الدول عنه فـي أزمات تعصف بالمنطقة، وحروب تضرب دولها، وجاءت نصائح خارجية أن يقوم اللبنانيون هم أنفسهم باختيار مرشحهم لرئاسة الجمهورية، كما أن المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، حاولوا أن يكون الرئيس «طبعة لبنانية» وأن يمثل الشريحة المسيحية التي كانت تشعر أن المرشحين يُفرضون عليها، لأسباب إقليمية ودولية، وقد رفضوا ذلك مرة واحدة عندما لم يوافقوا على إتفاق الرئيس حافظ الأسد والموفد الأميركي ريتشارد مورفـي على مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية فـي آب من العام 1988، فكان الشعار الشهير لمورفـي «الضاهر أو الفوضى»، فوقع لبنان بالفوضى الدستورية والسياسية والحرب الأهلية التي لم تتوقف إلا مع إتفاق الطائف الذي كان تسوية دولية-إقليمية أنهت الحرب فـي لبنان الذي لم يعد ساحة حروب الآخرين على أرضه، وانتقال الحرب الى العراق ودول أخرى، وهي مازالت مشتعلة فـي سوريا واليمن وليبيا والعراق، فـي حين يشهد لبنان استقراراً بسبب قرار دولي يمنع تفجيره وانتقال الحريق من جواره إليه.
فرئاسة الجمهورية كان مؤهلاً لها، أن تكون إنتاجاً لبنانياً، إلا أن فرصها ضاعت، كما أن الدول الكبرى تتعاطى معها كاستحقاق مؤجل، الى حين ظهور حلول فـي الأزمات والحروب العاصفة فـي المنطقة، لذلك كانت الدعوة الدولية لاستمرار عمل المؤسسات الدستورية القائمة كالحكومة ومجلس النواب وعدم تعطيلهما، كما فـي تهدئة الوضع الأمني، لأن إنفلاته سيؤدي الى حرب مدمرة، ليست لصالح اللبنانيين أولاً، كما أنها ستستنسخ الحالة السورية التي بدأت تهدد أوروبا، بسبب النزوح الكثيف إليها من السوريين الهاربين من ويلات الحرب، إضافة الى انتقال مجموعات مسلحة للقتال فـي سوريا، باتت عودتها الى الدول التي قدمت منها تشكل خطراً على أمنها.
من هنا يلح الرئيس برّي فـي الحوار الذي دعا إليه الى تفاهم اللبنانيين على رئيس لهم، والكرة رماها فـي ملعب المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً لتوحيد كلمتهم حول مرشح يرتاحون إليه، فلم يتوصلوا، إلى أن يكون رئيس الجمهورية من الكبار الأربعة وهم أمين الجميّل، ميشال عون، سليمان فرنجية وسمير جعجع، وباركت البطريركية المارونية هذا التنافس، لكنها ندمت، بسبب عدم التوافق بين هؤلاء المرشحين، وانحياز مرشحين بارزين منهم عون وجعجع الى محورين خارجيين، يعطل وصولهما، كما أن المرشح التوافقي غير موجود، وهو مرفوض من قبل عون بشكل خاص وحليفه «حزب الله»، لمنع تكرار تجربة الرئيس ميشال سليمان الذي بدأ مقاوماً وانتهى بطلب وقف المقاومة وإعلان حياد لبنان كما جاء فـي ما سمي «إعلان بعبدا».
لذلك تتعثر إنتخابات رئاسة الجمهورية داخلياً، إذ أن المواقف تدور فـي حلقة مفرغة، قوى «14 آذار» ترفض عون وترشح جعجع رسمياً، وتقبل بمرشح تسوية، طالما يعطل وصول عون الذي تعتبر انتخابه إنتصاراً لـ«محور الممانعة» المؤلف من إيران وسوريا و«حزب الله»، ويعطيهم نفوذاً فـي لبنان ويغير فـي موازينه السياسية، وتركيبته الطائفـية، فـي وقت يصر «حزب الله» على العماد عون مرشحاً، كما هو يصر على استمراره فـي المعركة، لأنه يمثل كتلة نيابية وازنة، ولديه شريحة مسيحية واسعة تؤيده، مع حلفاء له فـي كل لبنان.
والجمود فـي الإنتخابات الرئاسية، لم تحركه طاولة الحوار، وإن كانت فتحت النقاش حولها، لكن بقي «الستاتيكو» يتحكم بالمواقف التي ظلّت على حالها، كما أن التنازلات ليست مطروحة من أي طرف، ويتحكم باللعبة أيضاً النائب وليد جنبلاط الذي إذا صبّت أصوات كتلته النيابية، مع هذا المرشح أو ذاك فإنه يقلب المعادلة، لكنه اختار منذ البداية، أن لا يكون مع عون أو جعجع، وسمى عضو كتلته النيابية النائب هنري حلو مرشحاً وسطياً، يدير الأزمة ولا يحلها، ويقبل بمرشح له نفس المواصفات، لكنه لا يسميه وإن كان يتّفق مع الرئيس نبيه برّي على اسم النائب السابق جان عبيد الذي اقتربت منه الرئاسة مرات عدة وابتعدت لظروف داخلية وأخرى دولية وإقليمية.
ويستمر العام الحالي، دون أن يكون للبنان رئيس للجمهورية، وإن كان البعض حاول أن يسرّب معلومات عن أن أيلول هو شهر الحسم الرئاسي، لكن لا يبدو أن الأمور تتجه نحو حل قريب، إذ حضر رئيس وزراء بريطانيا ديفـيد كاميرون الى لبنان، وليس فـي جعبته مبادرة لرئاسة الجمهورية، سوى نصيحة أن ينتخب اللبنانيون رئيسهم، ومثله سيقول الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي سيزور لبنان نهاية أيلول، ولا يحمل فـي حقيبته اسماً رئاسياً، حيث لم توفق بلاده فـي أن تمسك بهذا الملف وتصل به الى نتيجة سعيدة، بسبب تعقيداته الداخلية والخارجية.
وهكذا يتواصل الشغور الرئاسي الى العام المقبل، وقد يقترب من ذكراه الثانية، ولم يصل الى قصر بعبدا رئيس جديد، حيث يعطل الفراغ إنتظام عمل المؤسسات الدستورية، كون موقع الرئاسة مهم دستورياً كحكم بين كل الأطراف، وربما هذا ما يفرض أن يكون مرشحاً توافقياً.
ويبدو أن المتحاورين على الطاولة، باتوا على قناعة، فـي أن ليس من رئيس على المدى المنظور، فقرروا أن يلعبوا فـي الوقت الضائع، حتى يأتي القرار من الخارج، وهو ما دفع بالنائب وليد جنبلاط، الى إنتظار دوحة ثانية، من أجل فرض رئيس للجمهورية، لأن لبنان إعتاد أن لا يصنع رئيسه، وهذا يعني القصور لدى الطبقة السياسية، التي يقوم الحراك الشعبي بتظاهرات لتغييرها، واستبدالها بقوى من المجتمع المدني لم تتلوّث بالفساد والجرائم ولا بتدمير الدولة ومؤسساتها.
إنها مرحلة الإنتظار حتى يتبلور ما يجري فـي المنطقة، فـينشغل اللبنانيون فـي أزماتهم الخدماتية، ورفع نفاياتهم وتأمين الكهرباء والمياه.
Leave a Reply