لا تكمن الأسباب الحقيقية لإشتباكات الأسبوع الماضي في منطقة البسطة في بيروت وإمتدادها إلى الأحياء والشوارع المجاورة، في رفع صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونجله النائب سعد الحريري. فهذه المنطقة من بيروت الغربية تتميز باختلاط سني – شيعي عالي الكثافة مقارنة بمناطق أخرى من العاصمة اللبنانية. والحكاية ليست «حكاية رمانة»، بل «قلوب ملآنة» كما يقول المثل الشعبي اللبناني. تندلع الحروب الأهلية عادة لأسباب مباشرة غاية في التفاهة، ولكن الأسباب الفعلية هي نتاج تراكمات طويلة من الإحتقان والتعبئة والتحريض. إندلعت فتنة عام 1860 بين الدروز والمسيحيين في الجبل بسبب خلاف صبية من الطائفتين على لعبة «الكلة» وإنتشرت نار الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 من حادثة بوسطة عين الرمانة وفي كلتا الحربين خاضت الطوائف «معارك وجود» عرفت أبشع الممارسات وأشدها أثراً لأجيال متعاقبة.الأوضاع السياسية المتأزمة التي يشهدها لبنان منذ أكثر من سنتين والتحريض والتعبئة المذهبيين اللذين يرافقانها باتت كفيلة بأن تتحول مناطق الإختلاط السني – الشيعي إلى براميل بارود جاهزة للإنفجار ولا يلزمها إلا صواعق من النوع الذي يطلقه زعماء الطوائف أو الناطقون بإسمهم على شاشات التلفزة على مدارالساعة. معارك «السلاح الأبيض» التي اندلعت في منطقة البسطة ومتفرعاتها الأسبوع الماضي هي بداية «التنفيس» عن الإحتقان المذهبي الذي بلغ ذروته في الآونة الأخيرة وتجلى بأبشع صوره في إنحدار الخطاب السياسي إلى حضيض التشاتم عبر الأثير وفي الفضاء رافعاً منسوب الأدرنالين المذهبي في الدورة الدموية للتعايش اللبناني إلى أخطر مستوياته.فكيف يلام سكان البسطة الباشورة والنويري من السنة والشيعة البسطاء إذا ترجموا اللغة التي يتحدث بها السياسيون من الفريقين إلى عصي وسكاكين وحجارة وخلع وتكسير بعد هذا الكم من الشحن المذهبي البغيض الذي تعرضوا إليه. وإذا كان الجيش اللبناني لا يزال قادراً على تطويق هذه الصدامات وإنهائها فلإن إرادة أولي الأمر على رأس هذه الجماعات لا تزال تتهيب الإصطدام وغير راغبة بإندلاع حرب أهلية جديدة يكون وقودها هذه المرة السنة والشيعة في إستعادة كريهة لتاريخ سحيق من النزاعات الدموية التي ظننا أننا تجاوزناها عبر أجيال من التعايش السلمي.لكن الحرب الأهلية قد لا تحتاج في لحظة تأجج وإنضغاط المشاعر المذهبية إلى قرار بإندلاعها وقد لا تنفع معها إرادة المنع إذا ما استمرت عروض الشحن والتوتير على حالها فوق رؤوس الناس البسطاء فعندما لا يطيق الشيعي صورة سعد الحريري والسني صورة نبيه بري أو حسن نصر الله في الشارع الذي يتقاسمان السكن فيه فهذا مؤشر فائق الخطورة على المستوى الذي بلغه التعايش الإسلامي – الإسلامي في مناطق شديدة الإختلاط والتشابك إلى حد يستحيل معه الفرز المذهبي إلا من خلال عملية إنتحار جماعية تقدم عليها الجماعات الأهلية إذا لم تعد تطيق مشاهدة رموزها دون ردود فعل غرائزية.ليس من الصعب تحديد المسؤولية عن هذا المآل الذي وصل إليه الشارع اللبناني بكل فئاته وطوائفه ومذاهبه. فالسياسيون تعطلوا أو «عُطلوا» عن أداء دورهم الطبيعي بإزاء الأزمة التي يكاد يختنق بها لبنان، وعوضاً عن البحث عن قواسم مشتركة لتجنيب البلاد وأهلها شرور المخاطر الماثلة يذهب هؤلاء إلى مواجهة يدركون سلفاً أن لا رابح فيها. وهذه الطبقة السياسية التي خاضت حرباً أهلية مديدة وإنتقلت من المتراس إلى مؤسسات الدولة عليها أن تدرك أن ذهنية الميليشيا لا تصلح لإدارة شؤون الناس.ثمة إستعادة لا واعية وخطيرة لقاموس الحرب الأهلية في لغة التخاطب السياسي وإيغال في ممارسة سياسة رفع المتاريس التي تقسم الناس نفسيا قبل قسمتهم وطنياً. يتحمل أقطاب الطبقة السياسية مسؤولية تاريخية أمام عموم اللبنانيين الذين لو إستفتوا حول المسائل الخلافية التي يرفعها زعماؤهم لصفعوهم جميعاً بمطلب وحيد: اتركوا هذا البلد يعيش واتركوا أهله يتدبرون أمور حياتهم دون خوف من كمائن الموت المجاني أو قلق على مصير الأبناء والأرزاق. لقد بلغ سيلُ التوتير المذهبي زُبى الإنفجار الذي حملت إشتباكات البسطة نموذجاً عنه. فليس «صدفة» أن تتحول منطقة سكنية يقطنها الآلاف من الناس إلى محاور قتال و«خطوط إمداد» وأن ينخرط مئات الشبان في هذا التمرين السريع على الحرب لكأننا في حالة تعبئة وإستدعاء الإحتياط أمام خطرٍ جلل!اللبنانيون لا يرغبون بالحرب وصورة «بوسطة عين الرمانة» التي مثلت رمز إنطلاقة حربهم الأهلية البشعة في 13 نيسان 1975 لا يريدون لها أن تتكرر في «صورة البسطة» وقد آن الأوان لكي ينزل من صعدوا إلى أعالي الشجرة إلى أرض الواقع الذي تعيشه جماعاتهم لعلهم يدركون أن «الصورة» من تحت غيرها من فوق!
Leave a Reply