وليد مرمر
سواء كان لبنان خطأً تاريخياً، كما كان يكرر الرئيس الراحل حافظ الأسد، أو فائضاً جغرافياً كما كان يحلو لهنري كيسنجر أن يقول، فإنه لا شك يمثل حيزاً جيو–تاريخياً فرياًد منذ القدم. وهذا ما صرح به الكاتب مائير زامير في كتابه «الكيان المسيحي اللبناني وجهة نظر صهيونية في نشوء لبنان الحديث»، حيث قال: «إن تاريخ لبنان ككيان منفصل لم يبدأ عام 1920 حين إعلان الدولة الحديثة ولا عام 1861 عندما أسس سنجق جبل لبنان تحت إدارة ذاتية (حكم المتصرفية)، بل الواقع أن لبنان حاز على كيان تاريخي منفصل منذ أمد طويل لم يجاره فيه أي كيان في المنطقة ما عدا المصريين، وبعض دلائل هذه الاستقلالية ظهرت حتى قبل مرحلة المماليك».
وبالعود إلى التاريخ الحديث يظهر أنه كان يتعين على الانتدابين الفرنسي والبريطاني خلق ثلاثة كيانات هجينة بغية القضاء النهائي على فكرة الوحدة العربية التي كان يطمح إليها الهاشميون: كيان مسيحي في لبنان، وكيان يهودي في فلسطين، وكيان وهابي–سلفي في الجزيرة العربية. وهذا ماكان!
لقد تعرض هذا الكيان المسيحي لأول هزة فعلية بعد الحرب الأهلية عندما تم التخلي عن بعض الامتيازات في مؤتمر الطائف لصالح المسلمين السنة تحديداً، وتم بالتالي تقليص دور المارونية السياسية لصالح الحريرية السياسية! والسبب وراء عدم قدرة الشيعة على استثمار تضحياتهم في الحرب الأهلية بمكاسب سياسية في الطائف، كما فعل السنة بدعم سعودي واضح يعود لأسباب ثلاثة:
الأول، أن مجرد القبول بعقد مؤتمر «الجمهورية الثانية» في الطائف كان أول الوهن، ذلك أن السعودية ليست طرفاً محايداً، وإن كانت تدعي ذلك، بل إنها هي من قامت بتمويل العديد من الجماعات المتطرفة والانفصالية خلال الحرب فضلاً عن مساعيها لبسط نفوذها في لبنان باستغلال الطائفة السنية.
ثانياً، لقد تمثل الشيعة في «الطائف» بنواب شيعة منتخبين قبل الحرب بقوانين انتخابية صنعتها المارونية السياسية ولديهم ولاءات متذبذبة كي لا نقول أكثر من هذا.
ثالثاً، كانت الجمهورية الإسلامية في إيران –عند انعقاد الطائف– قد خرجت للتو من حرب السنوات الثماني المدمرة ضد صدام حسين الذي انبرى لمهمة القضاء على الثورة بدعم عربي ودولي، وبالتالي، كانت إيران، أواخر الثمانينيات مشغولة بلملمة جراحها ولم تكن قادرة على لعب دور إقليمي داعم للأقليات الشيعية في المنطقة كما حصل لاحقاً.
وبالنظر إلى توزيع المراكز والوظائف في التركيبة اللبنانية اليوم، يبدو واضحاً وضوح الشمس أن الشيعة هم الأقل حظوة من بين الطوائف الكبرى. فمثلاً يسمي الموارنة رئيس الجمهورية وحاكم مصرف لبنان وقائد الجيش ورئيسي المخابرات والجمارك ورئيس كازينو لبنان فضلاً عن السفراء في عواصم القرار كواشنطن وباريس ولندن وجنيف. ويحظى السنة بثقل وازن يتمثل برئاسة الوزراء ومدعي عام التمييز ومدير عام الأمن الداخلي وشعبة المعلومات ورئاسة المرفأ وشرطة طيران الميدل إيست والمنطقة الحرة… ويكاد لا يتمتع الشيعة بأي مركز حساس في الدوائر ما عدا رئاسة مجلس النواب والجامعة اللبنانية ورئاسة المحكمة العسكرية! ولقد استطاع الشيعة مؤخراً فقط «انتزاع» مديرية الأمن العام من أنياب الطوائف المتصارعة، وها هم اليوم يحاولون ترسيخ عرف تسمية وزير شيعي لوزارة المال لما لها من أهمية في توقيع المراسيم وإقرار القوانين، ولأخذ مقعد لهم في السلطة التنفيذية.
ومنذ أسابيع قليلة وبعد سلسلة من التصدعات في بنية النظام اللبناني، سيما بعد انفجار المرفأ، قرر الرئيس الفرنسي ماكرون وبمباركة أميركية التدخل لإنقاذ الحد الأدنى من الدولة اللبنانية القائمة لأسباب عدة إقليمية ودولية. فالانهيار الشامل سيهدد مصالح الدول الكبرى.
ومرة أخرى تنازل «الثنائي الشيعي» الذي يتمتع مع حلفائه بالأكثرية النيابية، عن حقهم النيابي بتسمية رئيس الوزراء السني وأعطى هذا الامتياز لرئيس الوزراء السابق سعد الحريري الذي سمى الرئيس مصطفى أديب بإيعاز فرنسي.
وحتى اليوم لم يستطع أديب تجاوز عقدة وزارة المالية أو عقدة تسمية الوزراء نيابة عن الكتل النيابية، وذلك بتعنت واضح أملاه عليه نادي رؤساء الوزراء السابقين.
ومنذ أيام يبدو أن الفرنسيين قد اقتنعوا بأنهم هم من أرسوا في لبنان نظام المحاصصة الطائفي المقيت وبالتالي فليس من المعقول الطلب من زعماء الطوائف القفز إلى الدولة المدنية وتجاوز الهويات المذهبية بسحر ساحر.
ولأن طابخ السم آكله فقد تم الاتصال في مطلع الأسبوع بالرئيس «سقراط الحريري» الذي شارك الفرنسيين في «تجرع السم» و«تفضّل» على الطائفة الشيعية بالموافقة على تسمية وزير منها للمالية شريطة أن لا تصبح هذه التسمية عرفاً وأن يقوم الرئيس أديب بتسمية الوزير نيابة عن الثنائي الشيعي. ويبدو أن هذه الخطوة لاقت فتوراً من الثنائي وإن لم يرفضها بشكل علني بعد.
ولكن هل تكمن حقاً «عقدة أديب» في وزارة المالية أم أن لها بعداً إقليمياً ودولياً؟
لا شك أن الكباش الإقليمي بين المشروعين الانهزامي والمقاوم في المنطقة هو في أوجه. فلقد شن الملك سلمان بن عبد العزيز في كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هجوماً حاداً على إيران داعياً إلى وضع حل دولي لمنع حصولها على أسلحة دمار شامل ومتهما إياها بأن لها أطماعاً توسعية وإرهابية! وقال ملك النظام السعودي إن «الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران تهدد أمن الملاحة البحرية الدولية، كما أنها مستمرة في استهداف المدنيين في اليمن والسعودية». وفي الملف اللبناني أضاف «قاضي التحقيق الجنائي» سلمان بن عبد العزيز أن «حزب الله» مسؤول عن الانفجار المدمر الذي هز مرفأ بيروت أوائل أغسطس الماضي، داعياً إلى نزع سلاح الحزب لتحقيق الأمن في البلاد.
فهل تضغط السعودية على مصطفى أديب ومن خلفه الحريري لعدم تأليف حكومة يتمثل فيها «حزب الله» كمحاولة لتقليم أظافر إيران في لبنان؟
لا يبدو أن السعودية في وارد التنازل لإيران وحلفائها قيد أنملة رغم الهزائم التي منيت بها المملكة في ساحات المنطقة. ففي العراق تم القضاء على المشروع السعودي–الداعشي بشكل شبه نهائي، وفي سوريا تكاد الحرب تضع أوزارها لصالح محور المقاومة. وفي اليمن يطوق الحوثيون مدينة مأرب وهم قاب قوسين أو أدنى من تحريرها من قبضة التحالف السعودي–الإماراتي.
أما في لبنان فالكباش في أوجه بين مسعى فرنسي لإنقاذ الحد الأدنى من الهيكل لئلا يسقط على الجميع، وبين قرار سعودي بدفع البلاد إلى الانهيار لإخراج «حزب الله» من السلطة وشطبه من المعادلة السياسية.
فهل تحل «عقدة أديب» قريبا وينتصر القرار الدولي المتمثل بمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، أم يدفع التعنت السعودي لبنان إلى الانهيار الشامل الذي لا ينفك وزير الخارجية الفرنسي، لودريان، عن تذكيرنا بأنه واقع لا محالة، إن لم يتم تلقف مبادرة بلاده؟
Leave a Reply