بيروت – نجا لبنان من قطوع فتنوي مذهبي سني-شيعي، بفضل وعي مرجعياته الدينية السنية والشيعية على السواء، وإحساسها بالمسؤولية الوطنية، كذلك بفضل حزم الجيش للموقف الذي استجد اثر تعرض أربعة مشايخ للاعتداء في الخندق الغميق والشياح، ومسارعته إلى تطويق الحادثين وتوقيف المتهمين بالاعتداء على الشيخين.
ولكن مساعي الفتنة لم تتوقف، فقد انهارت، الخميس الماضي، كل الجدران التي رفعت خلال الفترة الماضية لتجنيب طرابلس جولة عنف جديدة في المناطق الساخنة. فقد اشتعلت بعض المحاور، لاسيما في البقار والريفا والشعراني والتبانة وجبل محسن وحصدت قتيلين من عائلتي الثلجي وزغلول و17 جريحاً، فيما نشطت أعمال القنص على مختلف خطوط التماس، في مؤشر جديد على أن «الإنفجار اللبناني» بات يلوح بالأفق مع الانتشار المسلح للمجموعات المتشددة في العديد من المناطق اللبنانية ولاسيما مدينة طرابلس التي تعج بمسلحي الجيش السوري الحر وجبهة النصرة وتيارات سلفية متشددة.
ووضع هذا التطور الأمني العاصمة الثانية أمام اختبار جديد يخشى أن يؤدي الى انفلات أمني كبير ينذر بفتنة دموية عمياء باتت أدواتها جاهزة، ومحصنة بفتاوى دينية.
ويمكن القول إن جولة العنف الحالية في طرابلس، كانت متوقعة بشكل كبير، بالرغم من الإجراءات الميدانية التي اتخذها الجيش اللبناني.
وتأتي أحداث طرابلس في الوقت الذي تضاعفت فيه حدة المخاوف من الاعتداءات المتكررة على المواطنين العزل العائدين من أعمالهم إلى منازلهم، وعمليات الخطف على الهوية والحصار الميداني على جبل محسن الذي يعمل نحو ثمانية آلاف شخص من أبنائه في طرابلس وبيروت وسائر المناطق اللبنانية والذين باتوا يواجهون صعوبة بالغة في الانتقال الى مراكز أعمالهم مع تنامي حالات الاعتداء التي يتعرّضون لها من قبل المجموعات المسلحة.
ولا شك في أن هذا الواقع بدأ يستنزف طرابلس ويقودها الى انهيار أمني واقتصادي.
ويقول البعض من ابناء المدينة، حسب صحيفة «السفير» اللبنانية إن ما يحصل في طرابلس من فوضى أمنية لم تشهده المدينة على مدى 30 عاماً حتى في عز الحرب الأهلية، حيث كانت تبرز أدوار لكل من «هيئة التنسيق الشمالية»، «التجمع الوطني للعمل الاجتماعي» والمؤسسات الإغاثية. أما اليوم فطرابلس متروكة تواجه مصيرها بنفسها، في ظل تخلٍّ غير مسبوق للقيادات السياسية وغياب كامل للمجتمع المدني والنقابات والجمعيات والأندية والروابط الأهلية.
ورفع رئيس المجلس الاسلامي العلوي الشيخ أسد عاصي الصوت في مؤتمر صحافي عقده، الخميس الماضي، في مقر المجلس في جبل محسن بحضور مشايخ الطائفة، مطالباً «الرؤساء الثلاثة والقادة الأمنيين بتحمل مسؤولياتهم، لأن الفتنة استيقظت على يد الاشرار الذين اعتدوا على مشايخ دار الفتوى، رافضاً تصفية الحسابات مع الطائفة العلوية التي يتعرّض أبناؤها يومياً للاعتداءات. وقال عاصي: «إذا سكت العقلاء ونام الشرفاء وتلكأ الجيش، ما بالكم نحن فاعلون؟ نحن لا نصمت فزعاً ولا جزعاً، ولكننا لا نساعد العدو على إذكاء فتنة، لاننا اذا اشعلنا هذه الفتنة معنى ذلك اننا نساعد العدو، لكننا لسنا خائفين وكل تعويلنا على الجيش اللبناني والدولة والمسؤولين كافة، وقد طفح الكيل، ونحن يجب ان ندافع عن انفسنا شرعاً واعتقاداً، من دون ان نعتدي، خصوصاً أن دم العلوي أصبح مهراً، للإرهابي كي يتزوّج حور العين».
وقد أظهر الشارعان السني والشيعي في لبنان، عقب حادثتي الإعتداء على الشيخين، انضباطاً ملحوظاً، مدعومين بمواقف حكيمة من سياسيي الطرفين الذين رفعوا الغطاء عن المعتدين الذين تم اعتقالهم والتحقيق معهم. وقد برز تعاطف أركان الطوائف الأخرى في نبذ العنف، والاحتكام إلى القانون والانصياع لتدابير المؤسسة العسكرية، واعتبار السلم الأهلي خطاً أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه، أياً تكن الاعتبارات، وخصوصاً في ظل القلق والاضطراب الأمني في المناطق القريبة من الحدود مع سوريا في الشمال والبقاع حيث لا يمر يوم من دون حوادث يتسبب فيها الكر والفر عبر هذه الحدود بين الجيش السوري النظامي ومسلحين يشاركون المعارضة في القتال داخل الأراضي السورية.
الأزمة السورية
ولكن اللافت أنّ الأوضاع الأمنية في طرابلس أصبحت تسير على وقع الازمة السورية، بحيث يلاحظ المراقبون أنّ المعارك على محور باب التبانة –جبل محسن تتحرك مع ازدياد ضغط الجيش العربي السوري على «الجيش السوري الحر» و«جبهة النصرة» الإرهابية في أرياف دمشق وحمص، إذ تشتعل الجبهة الطرابلسية كلما حقق النظام السوري تقدما سياسيا أو دبلوماسيا أو ميدانيا. ومع التطورات الأخيرة يبدو أنّ الأمور انكشفت بوضوح بعد أن لامست الأزمة السورية حد الانفجار الاقليمي والعربي الشامل، لا سيما بعد دخول الاسلحة الكيمياوية على خط المعارك المباشرة والمتأرجحة بين الكر والفر في حلب بشكل خاص وفي أرياف دمشق عموما.
وفي هذا السياق، يخشى أكثر من مصدر من أن تكون الدول الداعمة والممولة للتنظيمات السلفية والاصولية قد أعطت إشارة الانطلاق لتفجير الأوضاع في لبنان انطلاقا من طرابلس، وذلك بعد أن استنفدت وسائل الضغط السياسي والمعنوي كافة وآخرها الاعلان عن تشكيل حكومة سورية انتقالية تأخذ على عاتقها إدارة الأمور في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. بيد أنّ المصدر يلفت إلى أنّ سيطرة «جبهة النصرة» على الأرض وإدارتها للمناطق التي تسيطر عليها تشبه إلى حد بعيد إدارة «طالبان» إذا ما جاز التشبيه، وهذا يعني أنّ ما يتم إعلانه على الاراضي السورية ليس سوى شكل من أشكال الإمارات الاسلامية.
Leave a Reply