كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يعد الحديث في لبنان، عن أنه يقف على حافة الهاوية مالياً واقتصادياً، بل أصبح الجميع يعلم أنه في قعر الوادي، بالرغم من المحاولات الرسمية للطمأنة وبث الأجواء الإيجابية عبر القول إنها «مرحلة وستمر»، مع السير بإجراء إصلاحات مطلوبة دولياً لمساعدة لبنان على الخروج من ضائقته المالية والاقتصادية، وإلا ستكون البلاد أمام كارثة بدأت نذرها توجع الهيئات الاقتصادية، كما المؤسسات التجارية بشتى أنواعها والتي لجأ بعضها إلى الإقفال أو صرف عمال وموظفين، ناهيك عن العقوبات الأميركية التي تستهدف مؤسسات مصرفية ومالية وأفراد تحت ذريعة مساعدة «حزب الله» وتقديم الدعم المالي له، وكان آخر تلك الإجراءات، إقفال مصرف «جمال ترست بنك»، الذي بات خارج الخدمة، مع 400 موظف يعملون فيه.
الإصلاحات غير كافية
لمعالجة الوضع المالي، وتحسين النمو الاقتصادي الذي كشف وزير المال علي حسن خليل أنه صفر بالمئة، وفي ظل تراجع التصنيف الإئتماني للبنان، توجه رئيس الحكومة سعد الحريري إلى فرنسا، للقاء رئيسها إيمانويل ماكرون الذي تربطه به صداقة شخصية، ليحصل منه على قرار ببدء تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» وإطلاق المشاريع الاستثمارية الموعودة، بصرف مبلغ 3.3 مليار دولار، من أصل مبلغ 11.8 مليار دولار، وعد بها المشاركون في المؤتمر الذي رعته فرنسا، على شكل قروض ميسرة ومدعومة لتحريك عجلة الاقتصاد وإخراج لبنان من عنق الزجاجة.
إلا أن الحريري سمع من ماكرون كلاماً غير مطمئن، بأن الإصلاحات التي اتّخذتها الحكومة في موازنتها للعام 2019، لم تكن على مستوى الآمال المعقودة عليها، وهو ما نقله موفد باريس الخاص إلى لبنان بيار دوكان، لمتابعة تنفيذ مقررات «سيدر»، والذي أعلن من بيروت، أن الإجراءات الإصلاحية، ليست كافية، وهي في غالبيتها سلبية، لجهة العجز الفادح في مؤسسة الكهرباء، وعدم التقدم نحو الإصلاح الإداري في الوظائف العامة، وعدم خفض خدمة الدين العام. وهو الكلام نفسه الذي أكّده الرئيس الفرنسي في المؤتمر الصحافي المشترك مع الحريري الذي عاد إلى لبنان غير متفائل، وسط شكوك بإمكانية البدء بتنفيذ المشاريع الممولة من «سيدر»، قبل سنة أخرى على الأقل، إذا لم تُلغ من أساسها.
التحفيز الفرنسي
الرئيس ماكرون حض صديقه الرئيس الحريري، على القيام بإصلاحات أكثر جدّية، لأن الدول والصناديق، لن تصرف أية مبالغ في لبنان قبل أن تتأكّد من تخفيض العجز في الموازنة والذي بلغ في موازنة العام الحالي 7.6 بالمئة، في وقت تشكك فيه تقارير دولية بهذا الرقم وتعتبر العجز أعلى من ذلك ويصل إلى ما فوق 9 بالمئة، في حين يؤكّد وزير المال اللبناني، بأنه وضع سقفاً للعجز ما بين 5 و6 بالمئة في موازنة السنة المالية القادمة التي أنجزها في موعدها الدستوري، وبدأت الحكومة مناقشتها قبل سفر الحريري إلى باريس محملاً بالأخبار الإيجابية التي لم تلق ترحيباً من ماكرون الذي طالب بإجراءات أكثر تقشفاً وترشيداً للإنفاق.
الكهرباء
فور عودته من فرنسا، كثّف الحريري اجتماعاته الوزارية، حيث احتلّ موضوع عجز الكهرباء الأولوية مع مساع إلى تخفيضه بحوالي مليار دولار من أصل 2.5 مليار دولار تتكبّدها خزينة الدولة سنوياً، لاسيما وأن هذا الملف–المعضلة مسؤول عن 40 بالمئة من الدين العام. أما مقاربة الحكومة للحل فتقوم أولاً، بتعيين مجلس إدارة جديد لمؤسسة كهرباء لبنان، تقع عليه مسؤولية، ضبط الهدر الفني على الشبكة، وتحسين الجباية، وتركيب عدادات ممغنطة، ووقف التعديات على الشبكة وسرقة الكهرباء منها، والاعتماد على زيادة الإنتاج عبر بناء المعامل، إضافة إلى استيراد الفيول مباشرة لتخفيض الفاتورة التي تذهب لصالح الشركات.
وقالت وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني إن الوزارة أنجزت خطة لمعالجة أزمة الكهرباء، إلا أنه سبق للوزير جبران باسيل الذي كان وزيراً للطاقة، أن وعد في العام 2015 بتوفير الكهرباء على مدار الساعة يومياً، لكن ذلك لم يحصل قط، بل يخشى اللبنانيون أن تتكرر الوعود الفارغة الممتدة منذ عقود، دون أن ينعموا بالكهرباء. إذ لم ينشأ معمل بعد، كما لم تتم زيادة الإنتاج، بل تمت الاستعانة بشركات تركية لتوليد الكهرباء في السفن لتعويض توقف الإنتاج في معامل الزهراني والجية ودير عمار والذوق بانتشار إصلاحها، فحضرت باخرتان، ولم تتحسن التغذية بالتيار، مما دفع الحكومة إلى الاستعانة بباخرة ثالثة مع وعد ببناء معملين جديدين في سلعاتا ودير عمار، وهذه الحلول الجزئية لم تعد تقنع اللبنانيين الموعودين بزيادة تبلغ 43 بالمئة على فاتورة الكهرباء، في إطار الخطة المقترحة لخفض عجز الكهرباء بنحو مليار دولار، مما يعني أن العجز سيسد من جيب المواطن.
الوظائف العامة
ومن الإصلاحات المطلوبة بل المفروضة على الحكومة، تخفيض العدد الكبير من الموظفين في القطاع العام والذي يبلغ نحو 300 ألف موظف عدا المتقاعدين، وهو ما يرتب على الدولة سنوياً حوالي 8 مليار دولار، أي ما يوازي 45 بالمئة من الموازنة العامة. وقد أرسل رئيس الحكومة مذكرة إلى الإدارات والمؤسسات لإحصاء عدد الموظفين، الذين بينهم آلاف الفائضين، والذين وُظّفوا لأغراض سياسية، حيث تمّ إحصاء ما لا يقل عن 34 ألف شخص تم توظيفهم منذ العام 2014، وأن 11 ألفاً منهم تسللوا إلى مؤسسات الدولة بعد العام 2017 رغم صدور قانون وقف التوظيف آنذاك. وهو القانون الذي عادت الحكومة وأدرجته في موازنة العام 2019، مؤكدة الامتناع عن توظيف أي شخص لمدة ثلاث سنوات، وهو قرار غير شعبوي سيضرّ بالسياسيين الذين تقوم شعبيتهم على الفساد السياسي وتقاسم الحصص، إلا أنه سلوك تنبّهت إليه الدول المقرضة التي طالبت لبنان أن يعيد هيكلة إداراته الحكومية، مع الإشارة إلى أن ثمة مؤسسات لا لزوم لها، ولا تنتج، وقد اعترف وزير المال بذلك معلناً عن وجود حوالي 80 مؤسسة حكومية يمكن الاستغناء عنها، ومن ضمنها «مجلس الجنوب»، و«صندوق المهجرين» ومعه وزارة المهجرين التي أعلن وزيرها غسان عطالله، أنه أعدّ مشروع قانون لإقفالها، وكذلك مجلس الإنماء والإعمار، والمكتب الوطني للدواء، ومشروع «أليسار»، والهيئة الوطنية للاستخدام، وغيرها من المؤسسات التي نشأت في ظروف معينة، ولم تعد من حاجة إليها بعد أن عملت كمؤسسات رديفة لوزارات وإدارات رسمية.
والإصلاح المطلوب في القطاع العام يتعلق أيضاً بالرواتب لاسيما التقاعدية منها، كما الحوافز التي يحصل عليها الموظفون، إذ تم تشكيل لجنة خاصة لدراسة تخفيض نسبة الراتب التقاعدي المحدد حالياً عند 85 بالمئة من آخر راتب يتقاضاه الموظف أثناء الخدمة، وهى النسبة الأعلى بين الدول، ولذلك تجري دراسة صيغ أخرى لضمان الشيخوخة، وصناديق التعاضد إلخ…
الدين العام
وتبقى المشكلة الكبرى في خدمة الدين العام الذي يواصل ارتفاعه كل عام، وتبلغ حصته من موازنة هذا العام حوالي 5.5 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي 35 بالمئة من الموازنة. ولا يمكن أن تتم عملية إطفاء أصول الدين، الذي في غالبيته دين داخلي جنت منه المصارف نحو 100 مليار دولار، أقله خلال السنوات العشر الأخيرة، وهي ترفض أن تعاد هيكلة الديون بسندات خزينة حكومية بفائدة 1 بالمئة، للبدء بتخفيض خدمة الدين وإعطاء جرعة دعم للخزينة التي تشكو من قلة السيولة.
وقد انعكس ذلك خلال الأسابيع الماضية على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، الذي تم التعامل فيه عبر السوق السوداء بين الصرافين، وبلغت قيمته في هذا الأسبوع 1,560 إلى 1,570 ليرة مقابل الدولار الواحد، بعد أن ظل مستقراً عند 1500 ليرة منذ التسعينيات. ويحاول حاكم مصرف لبنان، إعطاء جرعة تفاؤل بأن لا خوف على الاستقرار النقدي، لكن الكلمة الأخير تبقى للسوق.
ومع الضائقة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، لجأ قطاع النفط إلى الإضراب، ومثله مستوردو القمح والطحين والأدوية وسلع أخرى أساسية، علماً بأن فاتورة الاستيراد تقدر حالياً بنحو 20 مليار دولار، مقابل 3 مليارات دولار من الصادرات فقط، وهو ما يفاقم العجز التجاري الذي تسعى الحكومة إلى التخفيف منه عبر الحد من الاستيراد لصالح الصناعة الوطنية.
كما أن التحويلات الخارجية تضاءلت سواء من مودعين أو مغتربين لبنانيين، ما انعكس على احتياط «مصرف لبنان» بالعملات الأجنبية، وأقلق اللبنانيين على مدخراتهم ورواتبهم واستذكروا مرحلة الثمانينيات عندما ارتفع سعر الدولار بشكل جنوني في عهد أمين الجميل.
الأرقام كلها تؤكد أن الوضع المالي بات في دائرة الخطر المحدق، ناهيك عن العقوبات الأميركية المتصاعدة، إذ حضر مساعد وزير الخزانة الأميركية مارشال بيلنغسلي للإطلاع عن قرب على تأثير العقوبات على «حزب الله» والتوجه الأميركي لتجفيف تمويله، وقد بدأ لبنان يعاني فعلاً من تبعات ذلك، حيث أُبلغ الموفد الأميركي بأن ما تقوم به إدارته ستكون له انعكاسات سلبية على اللبنانيين الذين يسمعون عن دعم دولي لبلدهم، لكنهم يشعرون بالحصار أيضاً.
وقد سبق أن وُعد لبنان بإيداع 500 مليون دولار من قطر وحوالي مليار دولار من السعودية، وهي وعود لم تنفّذ رغم تكرارها مراراً.
المشهد باختصار أن لبنان بات في الحضيض اقتصادياً ومالياً، فمَن ينتشله؟
Leave a Reply