كمال ذبيان – «صدى الوطن»
دخل اللبنانيون السنة الجديدة، دون أية بوادر للخروج من أزماتهم المتوارثة والمتراكمة على مر العقود، سواء السياسية منها أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وصولاً إلى القضائية والصحية والتربوية وغيرها من الأزمات التي تدفع البلاد نحو انفجار محتوم. فنسبة الفقراء تجاوزت 60 بالمئة مع نهاية 2020، ومعدل البطالة ارتفع إلى 45 بالمئة، البلاد مشلولة بسبب جائحة كورونا، والهجرة تتصاعد في صفوف الشباب لاسيما الخريجين منهم… كلها مؤشرات تنذر بأن لبنان يمرّ بأزمة وجودية تهدد الدولة بالانهيار والزوال، وفق توصيف مراجع دولية، بينهم وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، الذي شبه لبنان بباخرة «التايتانيك»، «لكنه يغرق من دون موسيقى».
لا حكومة
رغم الواقع الكارثي الذي يعيشه لبنان اليوم، لازال السياسيون فيه عاجزين عن تشكيل حكومة جديدة بالرغم من مرور خمسة أشهر على استقالة حكومة حسان دياب في 10 آب (أغسطس) الماضي، إثر انفجار مرفأ بيروت، الذي لم تعرف بعد، أسبابه أو هوية المسؤولين عنه، أو ما إذا وقعت الكارثة بفعل الإهمال، أو نتيجة عمل مدبّر.
فالكارثة التي أزهقت أرواح 200 شخص وألحقت دماراً هائلاً بأحياء واسعة من العاصمة اللبنانية، لا يستبعد أن تُدفن كغيرها من الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب اللبناني، خاصة مع ظهور بوادر للالتفاف على التحقيق من خلال احتدام الاشتباك السياسي–القضائي الذي نشأ عقب الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء هم: علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس، مما أسهم في صب الزيت على نار الأزمات المستعرة في البلاد، والتي لا يبدو أن لها حلولاً قريبة في الأفق.
أما رئيس الحكومة المكلف منذ نحو شهرين ونصف الشهر –سعد الحريري– فلم يتمكّن بعد، من تأليف الحكومة التي تواجهها عراقيل عديدة، مثل شكل الوزارة وعدد الحقائب وتوزيعها، حيث مازال التباين قائماً بين رئيس الجمهورية ميشال عون المتمسّك بصلاحياته الدستورية كشريك في تشكيل الحكومة من خلال التوقيع على مراسيمها، والحريري الذي يستند إلى صلاحيات تعطيه الحق في اختيار الوزراء، بالتشاور مع رئيس الجمهورية. لكن الرئيس عون، لا يوافقه على أسلوب التشكيل لجهة عدم الأخذ برأي الكتل النيابية، بينما يصر الحريري على تشكيل حكومة من وزراء «مستقلين غير حزبيين» باعتبار أن التجارب السابقة لتشكيل الحكومات باسم «الوحدة الوطنية» و«الديمقراطية التوافقية»، أثبتت عدم نجاعتها بسبب الصراعات السياسية القائمة بداخلها. كما لم تنجح حكومات اللون الواحد في قيادة البلد المنقسم سياسياً.
وتعتبر هذه الإشكالية السياسية–الدستورية بين عون والحريري السبب الظاهر لتعثر ولادة الحكومة، التي حاول وسطاء تسهيلها، لاسيما البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي دفع نحو التسوية وتقريب وجهات النظر، دون أن تكلل جهوده بالنجاح.
الانهيار مستمر
ومع تعثّر ولادة حكومة الإنقاذ الموعودة، وتعليق الوساطات، لاسيما المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون قبل خمسة أشهر، فإن الوضع الداخلي المتأزم قد يتجه إلى مزيد من التدهور بانتظار تشكيل حكومة تحمل معها مفاتيح حل الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية لمنع الانهيار الوشيك.
وإذا لم تتشكل حكومة إنقاذ سريعاً، فمن المرجح أن يستمر التدهور باضطراد خلال الأشهر القادمة، وسط توقعات بتراجع سعر الليرة إلى مستويات غير مسبوقة قد تصل إلى عشرين ألف ليرة للدولار الأميركي الواحد.
ومع بداية العام الجديد، لم تظهر أية بوادر أو مبادرات باتجاه الحل، الذي يجب أن يبدأ من القوى السياسية التي تعهدت للرئيس الفرنسي بالعمل على إنقاذ لبنان، لكنها لم تقرن أقوالها بالأفعال حتى الان، رغم أن ماكرون كان قد توجه إلى أفراد السلطة الحاكمة بعبارات نابية محملاً إياهم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في بلاد الأرز.
الأسوأ قادم
لن يكون العام الجديد أفضل من الذي سبقه، بل لدى اللبنانيين قناعة راسخة بأن الأسوأ قادم. فالصراعات الدولية والإقليمية لا يبدو أنها ستبرد قريباً. كما أن تقارير مالية واقتصادية دولية ومحلية، تؤكد بأن لبنان ينتظره عام من الأزمات المتفاقمة التي لا يمكن مواجهتها من دون حكومة جديدة.
ولا يخفى على أحد أن اللبنانيين يعيشون هذه الأيام، حالة يأس وإحباط على وقع الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي والمهدد بالانفجار بحلول شهر شباط (فبرير) المقبل مع قرب نفاد احتياطات مصرف لبنان.
ففي غضون الشهرين المقبلين يتعين على المصارف زيادة الرسملة، وإلا فإن غالبيتها مهدّد بالإفلاس والإقفال، وقد إمتنع بعضها بالفعل عن تنفيذ تعميم مصرف لبنان، الذي هدّد المصارف بأنها ستكون خارج القطاع، إذا لم تُعد جزءاً من أموالها المهرّبة إلى الخارج، وقد حدّد لها المصرف المركزي نسبة تصل إلى 30 بالمئة لإنعاش السوق بنحو عشرة مليارات دولار ومنع استمرار تدهور سعر صرف الليرة. لكن لا يبدو أن أياً من أصحاب المصارف سيلتزم بتنفيذ التعميم، وهو ما يهدّد المودعين بخسارة ما تبقى لديهم من أمل في استعادة أموالهم، في وقت يستمر فيه تعثر التدقيق الجنائي المالي الذي كان من المفترض أن يكشف وجهة تهريب الودائع المصرفية، وكيفية إنفاق مئات مليارات الدولارات من الخزانة، وما هو الحجم الحقيقي للخسائر.
ماذا الآن؟
من الجنون القول إن باستطاعة لبنان الخروج من أزماته خلال العام 2021، لاسيما مع استمرار الطبقة السياسية ذاتها منذ ما بعد اتفاق الطائف وانسحاب القوات السورية من لبنان، حيث لم تنجز هذه القوى أي إصلاحات حقيقية في النظام الطائفي المتغلغل في كل دوائر السلطة وأجهزة الدولة، وما البنود الإصلاحية التي وردت ضمن المادة 95 من دستور الطائف –بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية وإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وإلغاء طائفية الوظيفة باستثناء وظائف الفئة الأولى مع المحافظة على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، سواء في مجلس النواب أو الوزراء أو الوظائف في الفئة الأولى– سوى حبر على ورق فشل اللبنانيون في إخراجه من النص إلى التطبيق على أرض الواقع. وإذا كانت الرعاية السورية كفيلة سابقاً بتسيير النظام حتى العام 2005، فقد أثبتت الفترة اللاحقة وما تخللها من أزمات حادة، عجز النظام اللبناني عن تسيير شؤون البلاد أو حتى تشكيل حكومة ضمن مهلة زمنية معقولة.
ففي الواقع، إن أزمة لبنان، مازالت هي نفسها منذ نشأته قبل قرن من الزمن، بقرار فرنسي. لأن القائمين على السلطة فيه لم يعمدوا قط إلى تطوير النظام على أساس المواطنة، كما فشلوا في بلورة موقعه الجيوسياسي وظلوا أسرى ميثاق 1943 الذي نص على أن لبنان لا ينتمي إلى الشرق ولا الغرب. غير أن هذه «التسوية» التي وثّقت على الورق، لم تمنع لبنان قط من الوقوع بأزمات داخلية متتالية وصلت إلى حد الاقتتال والحروب الأهلية نتيجة لصراعات إقليمية ودولية مستمرة، تغذت وتتغذى من الانقسام الداخلي الحاد حتى حول تاريخ البلد وهويته.
أمام هذا الواقع المرير، نستبعد أن يحمل العام 2021 جديداً للبنانيين، بل يمكن التوقع بسهولة أن أحداث قادم الأيام لن تكون سوى حلقة جديدة من مسلسل الأزمات المستمرة منذ نشأة لبنان.
Leave a Reply