لا تقع إثارة مسألة الصواريخ المزعومة التي اتهم وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك سوريا بنقلها الى “حزب الله” في باب جديد من أبواب المزاعم الاسرائيلية. فقد دأب المسؤولون الاسرائيليون بمستوياتهم كافة على تحذير سوريا من مغبة استمرار تسريب الأسلحة الى الحزب اللبناني الذي صمد امام ماكينة الحرب الاسرائيلية العملاقة، في تموز 2006، في سابقة نادرة في تاريخ الصراع العسكري العربي-الإسرائيلي.
لكن الجديد في الضجة الإسرائيلية التي بلغت أصداؤها البيت الأبيض وتخطته الى الكونغرس الأميركي، فضلا عن الخارجية ومسؤوليها، أن باب المزاعم الاسرائيلية قد اتسع لدخول عنصر خطير من عناصر التوتير السياسي الذي يمهد في العادة، لتوتير عسكري، إذا افترضنا أن الضغط الدبلوماسي على سوريا وايران قد استنفد أغراضه لصالح رؤية اسرائيلية تفيد بأن على الادارة الأميركية أن تحزم أمرها وتنهي فترة اختبار النوايا التي تخوضها ادارة أوباما منذ وصوله الى البيت الأبيض، وأن “عسكرة” التعاطي مع التحديات الاقليمية هي الوسيلة الأنجع لمواجهتها.
وإذا صح الافتراض، وهو صحيح الى حدود بعيدة، أن اسرائيل أخفقت حتى الآن في جر الادارة الأميركية الى “خيارات بوشية” في التعاطي مع الملف النووي الايراني، وعلى ضوء العجز الاسرائيلي عن القيام بتوجيه ضربه الى المنشآت النووية الايرانية بصورة منفردة، لاعتبارات لوجستية، فضلا عن السياسية، يمكن حينئذ فهم التوجه الاسرائيلي نحو تنفيس الاحتقان الملازم للسياسة الاسرائيلية فيما يتصل بالملف الايراني، باطلاق “حرب بديلة” تطال “الذراع الايرانية” الأقوى في المنطقة والمرفوعة فوق جبهتها الشمالية عبر ترسانة الصواريخ التي يملكها “حزب الله”.
تدرك اسرائيل أن لحرب من هذا النوع، قد تشمل الأراضي السورية، اثمانا وأخطارا، وتجربة حرب تموز لاتزال ماثلة حين أخفقت الترسانة الحربية الاسرائيلية برمتها –باستثناء المخزون النووي– في منع المقاومة اللبنانية من الاستمرار في إمطار عمق أراضيها بالصواريخ على مدى 33 يوما.
ويكمن السؤال الأساس وراء “ضجة الصواريخ” التي نشرتها اسرائيل في الايام الماضية في سماء المنطقة والعالم فيما اذا كان رفع درجة المخاطر من النقل المزعوم لصواريخ سكود المعدلة، يهدف الى تسريع خيار شن حرب موضعية ضد “حزب الله” وايصال رسالة الى الرئيس السوري تحذره من مغبة التدخل في هذه الحرب، تحت طائلة “إعادة سوريا الى العصر الحجري” وفق تصريحات لمصادر وزارية “مجهولة” معلومة، سمعنا شبها لها قبل أشهر قليلة على لسان وزير الخارجية ليبرمان الذي هدد بوقاحة غير مسبوقة باسقاط نظام الرئيس الأسد هذه المرة، واستتبعت ردا سوريا غير مسبوق أيضا على لسان وزير الخارجية وليد المعلم الذي نصح اسرائيل بالجنوح نحو السلام، وبعدم امتحان قدرة سوريا على مواجهة أي عدوان عليها، وتذكير الوزير الاسرائيلي بأن مدن اسرائيل ليست بمنأى عن الصواريخ السورية.
ثمة اعتقاد ساد حقبة طويلة بأن مواجهة عسكرية مباشرة بين سوريا واسرائيل ستظل احتمالا بعيد الحصول، وأن “حروب الوكالة” ستظل تنوب عن تلك المواجهة حتى تتوفر ظروف تسوية سلمية تستعيد سوريا بموجبها أراضيها المحتلة ويتم اقفال آخر جبهة من جبهات الصراع العسكري العربي-الاسرائيلي الذي رسا في العقدين الاخيرين على حركات المقاومة في لبنان وفلسطين (غزة تحديدا) بدعم من “محور الممانعة” السوري-الايراني.
وشكلت الصورة الثلاثية التي جمعت الرئيسين السوري والإيراني وأمين عام “حزب الله” في العاصمة السورية في شهر شباط (فبراير) الماضي تحديا لصمود سياسة الانفتاح التي انتهجتها ادارة الرئيس أوباما، أمام الالحاح الاسرائيلي على انتهاج سياسة أكثر تشددا إزاء ايران وملفها النووي وسوريا وملف دعمها المباشر وغير المباشر لحركات المقاومة في لبنان وغزة.
ويخشى، أن تكون حكومة نتنياهو القائمة على ائتلاف من المتطرفين قد اتخذت قرارا بمغامرة عسكرية جديدة فوق الساحة اللبنانية، على طريق طموحها بازالة ما تعتبره تهديدا جديا لها عبر القنبلة النووية الايرانية، التي ألمحت مصادر أمنية أميركية إليها في تصريحات اعتبرت أن التعاطي مع ايران نووية بات حقيقة لم يعد بالإمكان تجاهلها!
هذا التناغم الاسرائيلي –الأميركي في التحذير من الخطر الايراني ومن وصول صواريخ بالستية بعيدة المدى ونظم متطورة مضادة للطائرات الى “حزب الله”، يطرح العديد من الاسئلة ويثير المزيد من الشكوك حول “الخلاف” بين الادارة الأميركية وحكومة اليمين الاسرائيلي، ومدى قدرة الرئيس اوباما على لجم التوجهات الاسرائيلية نحو عمل عسكري يستهدف ترسانة صواريخ “حزب الله” التي يقدرها مسؤولون أمنيون اسرائيليون بنحو 40 ألف صاروخ من بينها 13 ألف جاهزة للانطلاق دفعة واحدة نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة بأعماق متفاوتة.
وما يعزز المخاوف من إقدام اسرائيل على مغامرة عسكرية جديدة ما نشرته “صنداي تايمز” البريطانية نقلا عن مراسلها في اسرائيل عن قيام الاخيرة بابلاغ الرئيس السوري بشار الأسد تحذيرا سريا بأنها ستوجه ردا انتقاميا فوريا ضد الأراضي السورية نفسها، في حال اقدام “حزب الله” على شن هجوم بالصواريخ، واعتبارها “حزب الله” كفرقة من فرق الجيش السوري. لا يقلل هنا، رد وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك على تحذير العاهل الأردني من اندلاع حرب في الصيف المقبل اذا لم يحدث تقدم على جبهة التفاوض، وحديث رئيسه نتنياهو عن “جنوح اسرائيل للسلام” المعزز باشهار “سيف داوود” من خطورة الاحتمالات التي تقبل المنطقة على مواجهتها. وقد تعلمنا من تاريخ الحروب الاسرائيلية العربية أن “أدبيات السلام” الإسرائيلية لم تؤد سوى الى خوض الدولة العبرية حروبا خاطفة وسريعة وغادرة فرضت وقائع سياسية وميدانية مختلفة وجعلت من “حديث السلام” معبرا الى حروب جديدة كانت تخرج من جعبة الحكومات المتعاقبة بوتيرة مدروسة.
والأرجح أن سوريا تأخذ التهديدات الاسرائيلية باستهدافها هذه المرة، على محمل الجد، وهي إذ لاتزال تبدي تمسكها بحلفها الاستراتيجي مع ايران، رغم كل الضغوط الأميركية والعربية عليها لفك هذا التحالف، الا أنها تبدو ذاهبة نحو خيار إحياء المحور الثلاثي الذي جمعها مع السعودية ومصر، وأدت أحداث لبنان التي وقعت بين اغتيال رئيس وزرائه الأسبق رفيق الحريري وحرب تموز 2006 إلى انفراطه.
واذا كان من الصعوبة بمكان التكهن أو المراهنة على ابتعاد سوريا عن حليفها الايراني، في ظل الضعف المستشري في الجسم العربي، والانهيارات التي شهدها خلال السنوات الأخيرة، الا أن ما تناقلته وكالات الأنباء عن قمة ثلاثية سورية-سعودية-مصرية وشيكة في شرم الشيخ، اذا ثبتت صحتها، والعناوين التي ستبحثها وأبرزها القلق السوري من حرب اسرائيلية وشيكة على هدير قضية الصواريخ المزعومة، يؤشر الى محاولة سورية بالتنسييق مع السعودية لإذابة الجليد في العلاقات السورية–المصرية، ولإحياء المحور الثلاثي العربي الذي شكل حتى خمس سنوات خلت الحد الأدنى للتضامن العربي المنشود في مواجهة أخطار السياسات الاسرائيلية وخططها لإنهاء القضية الفلسطينية وفرض نسخة السلام الاسرائيلي على عالم عربي غارق في انقساماته وغائب بصورة كلية عن مسرح التأثير في منطقة تتسابق قوى اقليمية غير عربية لملء الفراغ الحاصل فيها ولجم المخططات الاسرائيلية لتفتيتها على طريق تكريس هيمنتها عليها.
فهل تكون رواية الصواريخ المزعومة مقدمة لحرب وشيكة قررت اسرائيل خوضها، رغم إدراكها للأثمان المترتبة عليها، أم أنها رسالة من الرسائل التي تتوخى ممارسة ضغوط دبلوماسية وسياسية لحرف الأنظار عن الهدف الحقيقي الذي تسعى الى تحقيقه وجر الادارة الأميركية الى مسرحه، والمتمثل بمنع ايران من تطوير سلاح نووي؟
ثمة من يعتقد بأن اسرائيل تسعى الى شن حرب تعويضية عن عدم قدرتها على توجيه ضربة عسكرية حاسمة ضد ايران، أو تقسيط هذه الحرب على دفعات. وثمة أيضا، من يعتقد أن اسرائيل باتت عاجزة عن حسم أي حرب مستقبلية وأن جل ما تسعى الى تحقيقه هو استعادة هيبة ردع تسلحت بها منذ قيام كيانها فوق أرض فلسطين. وبين هذا الاعتقاد وذاك يبدو من شبه المحقق أن عاصفة كبيرة على وشك الهبوب يخشى أن يكون لبنان في عينها.
لا يستخفن أحد بتحذير الرئيس سعد الحريري من روما من “سيناريو عراقي جديد” في لبنان، وليس عبثا أن يرفع الجنرال عون لواء الدفاع عن سلاح “حزب الله” من مدريد الاسبانية، وأن ينصح وليد جنبلاط بسحبه كليا من التدوال!
أما الخطيئة الكبرى فهي الركون إلى “تطمينات” ثعلب حكومة اليمين الاسرائيلية ايهود باراك!
Leave a Reply