قطع طرقات وتوترات متنقلة… وذكريات الحرب تعود إلى الأذهان
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
في سياق ما تشهده الساحة اللبنانية من توتر منذ أكثر من شهر بسبب الاحتجاجات التي شملت معظم المناطق اللبنانية، وبدأت على خلفية مطالب معيشية، لتنتقل بسرعة قياسية إلى موجة من الحراك السياسي المعارض للسلطة والمطالب بإسقاط كل رموزها.
بالعودة قليلاً إلى الوراء، كانت تسوية سياسية قد أُبرمت وانضوى إليها مختلف الأفرقاء على الساحة اللبنانية، أعقبتها انتخابات نيابية أفرزت أغلبية نيابية لصالح تحالف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» ومن معهما.
لكن يبدو أن هذه التسوية استنفدت كل أوراقها، وباتت بحكم المنتهية، بدليل أن أحد أهم أركانها رئيس الحكومة سعد الحريري قدم استقالته، معلناً تضامنه الكامل مع «المنتفضين» وتبنيه التام لمطالبهم، فضلاً عن أن رئيس حزب «القوات اللبنانية» كان أول من ركب موجة «الثورة» باستقالة وزرائه من الحكومة، فيما بقي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في الوسط، إلى أن حدث ما حدث ليل الثلاثاء الماضي حين أطلق سائق أحد ضباط الجيش اللبناني النار على أحد المتظاهرين الذين كانوا يقطعون الطريق في منطقة خلدة–الشويفات عند مدخل بيروت الجنوبي، بالتزامن مع «موجة غضب» شعبية إثر لقاء تلفزيوني أجراه الرئيس اللبناني ميشال عون، واعتبره البعض استفزازياً، بعد تحريف كلامه حول دعوة المحتجين إلى الهجرة…
فالجاهزية العالية والسرعة الفائقة التي تميزت بها مظاهر النزول «العفوي» إلى الشارع، مباشرة بعد انتهاء مقابلة عون، كانتا لافتتين للأنظار وسط علامات استفهام كثيرة حول من يقف وراء التحريض.
وقد صدر لاحقاً بيان عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية تناول التحريف الذي طال كلام الرئيس، حول الفقرة المتعلقة بوجود قائد للحراك الشعبي وورد فيها: «إذا لم يكن هناك «أوادم» في هذه الدولة فليهاجروا لأنهم في هذه الحال لن يصلوا إلى السلطة».
ما تبع المقابلة التي دعا فيها عون المتظاهرين إلى الخروج من الشارع والعودة إلى عجلة الإنتاج والحياة الطبيعية تفادياً لانهيار البلاد، لم يكن أمراً عادياً في لبنان. فقد عاش المواطنون ساعات عصيبة بلغ فيها التوتر ذروته، متنقلاً من منطقة إلى أخرى، ووصل الأمر في بعض المناطق إلى استخدام السلاح وبناء الجدران الاسمنتية لقطع الطرق، ولولا تدخل القوى الأمنية في الوقت المناسب، كادت الأمور لتنزلق نحو المواجهة المسلحة في الشارع، واستدعى الأمر تدخلاً مباشراً وحازماً من البطريركية المارونية للجم التوتر ودعوة الزعماء الى تحمل مسؤولياتهم.
حزب الله: ابدأوا بمحاسبتنا
وفي حين بدأ التصويب المباشر على عون يتضح أكثر فأكثر، كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله قد استبق النوايا المبيتة لدى البعض لتحويل الغضب الشعبي نحو المقاومة، بتأكيد رفضه الخضوع للضغوط الأميركية والإملاءات الخارجية، مشيداً بالقضاء اللبناني ومطالباً بإطلاق يده لمحاسبة الفاسدين إلى أية جهة انتموا، داعياً إلى البدء بممثلي حزبه في مختلف المجالات، من مجلس نيابي ووزارات وحتى مجالس بلدية، معتبراً أن الفاسد كالعميل لا دين له، كما دعا اللبنانيين إلى الوعي لإنقاذ البلاد، مؤكداً أن لبنان يستطيع تجاوز الأزمة التي يتخبط فيها حالياً، في حال خلصت النيات وتوافرت الإرادة لذلك.
جرس إنذار
بالعودة إلى ما حصل ليل الثلاثاء–الأربعاء، فقد سُجل حضور لافت للزعيم الدرزي وليد جنبلاط صاحب المواقف المتقلبة، حيث توجّه فور مقتل الشاب علاء أبو فخر الذي ينتمي إلى «الحزب التقدمي الاشتراكي»، على يد سائق أحد ضباط الجيش المحسوبين على جنبلاط نفسه، الأمر الذي تسبب بإرباك للرجل، فالقاتل والمقتول هما من أبناء طائفة الموحدين الدروز التي يتزعمها.
بسلاسة ودوناً عن غير من المواطنين، مرّ موكب جنبلاط الذي كان بصحبة وريثه وخليفته –نجله تيمور– وسط المحتجين الذين قطعوا الطرقات وأشعلوا الإطارات استنكاراً لكلام رئيس الجمهورية، لتثار أسئلة بديهية حول حقيقة إيمان المتظاهرين بالشعارات التي يرددونها وغضبهم المزعوم تجاه كل من يمت إلى السلطة بصلة، تحت شعار «كلن يعني كلن»، حتى أن عدداً من الموجودين التقط مع جنبلاط صور سيلفي بعد أن بالغوا بالاحتفاء بمروره بينهم وأفسحوا الطريق له التي أُقفلت بوجه المواطنين وأحياناً بوجه سيارات الإسعاف! وكأن جنبلاط لم يكن شريكاً في الحكم منذ اليوم الأول لتسوية الطائف، وقد استمر فيه على مدى كل الحكومات المتعاقبة…
من يستغل الحراك؟
الحديث في لبنان يتردد بقوة عن محركين خارجيين يقفون خلف ما يحصل في البلد، وأصابع الاتهام تُوجّه بطبيعة الحال نحو المستفيد الأول، إسرائيل، كيف لا وهي التي تحاول الحصول على ما عجزت عن أخذه بالحرب المباشرة، من خلال ما تثيره اليوم من قلاقل واضطرابات هنا وهناك، بالتعاون مع حلفاء قدماء انتهوا سياسياً وباتوا جزءاً من الزمن الماضي، ووجدوا اليوم فرصتهم، فركبوا الموجة بل وتصدّروها كقادة لــ«الثورة» أنقياء أطهار لا تشوب تاريخهم شائبة، كل ذلك بغطاء أميركي وتمويل ربما يكون خليجياً، يغذي إعلاماً مأجوراً ينفخ في بوق الفتنة ليلاً ونهاراً وفق ما يقوله البعض.
الحريري والتعايش مع باسيل
رئيس الوزراء اللبناني وبحسب ما يُنقل عنه ضاق ذرعاً بوجود وزير الخارجية جبران باسيل معه في السلطة، ولم يعد يستطيع التعايش معه، مطالباً بتأليف حكومة تكنوقراط تماشياً مع مطالب الشارع الذي بات الحريري بين ليلة وضحاها رمزاً من قادته، بعد أن كان إسقاطه أحد أهدافه.
وقد انتشرت خلال الأسبوع الماضي أنباء عن نية محتملة لدى الحريري بالاعتذار عن قبول التكليف في حال لم يستجب لمطالبه، لجهة اختيار الأسماء وتوزيع الحقائب.
هنا وفي هذا السياق، برز كلام لافت لرئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، حيث قال وهو المعروف بحكمته وقدرته الكبيرة على تدوير الزوايا وابتداع الحلول: «لقد قدمنا للحريري لبن العصفور، فإذا رفض سأقاطعه طيلة حياتي». الحريري رد على كلام بري بالقول: «إن بري أخ أكبر، ولن يقاطعني مهما حصل، وأنا متوقف حالياً عن أكل الأجبان والألبان» بداعي «الريجيم السياسي».
وهو ما فسره البعض على أنه إشارة ضمنية إلى رفض طرح مقترح الرئيس بري، الذي تبلور بعد عدة لقاءات عُقدت مع «الخليلين» نقلا فيها للحريري وجهة نظر الرئيس بري والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
الموفد الفرنسي
في إطار ما قيل إنها وساطة فرنسية، أو على الأقل محاولة لفتح كوّة في جدار الأزمة اللبنانية، وصل إلى بيروت مدير دائرة الشرق الأوسط وأفريقيا في الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو في جولة استطلاعية، التقى خلالها عدداً من المسؤولين، بمن فيهم مسؤول العلاقات العربية والدولية في «حزب الله» عمار الموسوي.
وقد طالب فارنو بحكومة سريعة وفعالة تستجيب لتطلعات اللبنانيين، واضعاً زيارته في إطار الصداقة العميقة التي تربط بلاده بلبنان. لكن البعض قلّل من أهمية هذه الزيارة، على اعتبار أنه لو كانت باريس جادة في وساطتها، لكان أوفد الرئيس الفرنسي مستشاره إيمانويل بون، لا موظفاً من الدرجة الثانية في وزارة الخارجية الفرنسية.
كذلك كان من المقرر أن يقوم نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بزيارة لبيروت، لكن يبدو أن التوترات القائمة على الساحة اللبنانية دفعت إلى تأجيل الزيارة من دون تحديد موعد آخر لها في إشارة سلبية واضحة إلى أن وقت التسويات لم يحن بعد.
لا يمكن تجاوز التوازنات السياسية
«تكتل لبنان القوي» ومن خلفه رئيس الجمهورية، يعتبرون أنفسهم السباقين في رفع شعار محاربة الفساد، ورفع السرية المصرفية عن حساباتهم، وكذلك الحصانة النيابية، إضافة إلى مطالبتهم باستقلالية القضاء.
أما بالنسبة إلى الورقة الاقتصادية، فقد أبدى رئيس الجهورية كامل الاستعداد لتنفيذها وبسرعة، وحتى الذهاب إلى أبعد من مضامينها… هذا ما يؤكده عضو «تكتل لبنان القوي» النائب أدي معلوف، الذي دعا أيضاً إلى اغتنام اللحظة التاريخية المتاحة اليوم أمام الشعب لمحاسبة كل الفاسدين.
وعن ضرورة الإسراع في اتخاذ إجراءات حقيقية لتدارك غليان الشارع، يقول النائب معلوف لـ«صدى الوطن» إن التسرع والقبول بحكومة خالية من أية نكهة سياسية، أي لا تمثيل حزبياً فيها، سيجعل منها حكومة غير مستقرة، في إشارة إلى استبعاد «حزب الله» وباسيل تحديداً منها، وهو ما يطلبه الرئيس الحريري.
وقد أشار الرئيس ميشال عون الى هذا الأمر في لقائه الصحافي، معتبراً أنه لا يمكن أن يقصي ثلث الشعب اللبناني، قاصداً «حزب الله» بما يمثله، وفي هذا اتهام واضح ومباشر لرئيس الحكومة سعد الحريري بأنه يسير وفق الأجندة الأميركية التي تدعو إلى تشكيل حكومة خالية من «حزب الله».
وعن احتمال اعتذار الحريري عن التكليف يرفض معلوف استباق الأمور، لكنه في الوقت عينه يشير إلى حتمية وجود خيارات متعددة سيجري تدارسها مع الحلفاء، لأنه لا يمكن ترك البلاد من دون حكومة، كما أنه لا يمكن لأحد تجاوز التوازنات السياسية أو نتائج الانتخابات التي أفرزت أكثرية نيابية لصالح الرئيس عون وحلفائه، مرحّباً بكل من يريد الإصلاح، مع التأكيد على أن من يتوهم أنه قادر على الانقلاب على السطة، سيواجَه بكل صلابة.
أما عن إمكانية استقالة الرئيس عون تحت ضغط الشارع، فقد رفض النائب معلوف هذا السؤال جملة وتفصيلاً، مشدداً على قوة موقف الرئيس وصلابته، وهو الذي يمثل غالبية في الشارع المسيحي.
ويقول معلوف إن الحل الوحيد هو التوافق، وإن لعبة الشارع ليست في مصلحة أحد، وفي هذا الإطار أشاد بموقف جنبلاط الذي دعا فيه إلى التهدئة والتعقل، إثر مقتل الشاب علاء أبو فخر، الذي كان يشارك في قطع الطريق عند مدخل بيروت الجنوبي، وألمح إلى وجود محاولة جدية من قبل الوزير باسيل لإخراج صيغة توافقية.
وترددت أنباء، مع صدور هذا العدد، عن إمكانية التوافق مع الحريري على تسمية رئيس وزراء بديل عنه، وهو النائب السابق محمد الصفدي، ولكن البعض قرأ في ذلك مناورة، لاسيما وأن الصفدي محسوب على النخبة الحاكمة التي انتفض ضدها الشارع في ١٧ تشرين الأول المنصرم.
ونقلت «رويترز» عن ثلاثة مصادر مطلعة أن الأحزاب اللبنانية الكبيرة اتفقت على اختيار الصفدي وزير المالية السابق لخلافة الحريري، مما يشير إلى إحراز تقدم نحو تشكيل حكومة جديدة في وقت تواجه فيه البلاد أزمة اقتصادية حادة.
وجاء التوافق على اختيار الصفدي خلال اجتماع عقد في وقت متأخر يوم الخميس الماضي بين الحريري وممثلين عن «حزب الله» و«حركة أمل».
وذكر مصدر مطلع على الاجتماع أن الحريري لم يبد أي اعتراضات على اختيار الصفدي مضيفاً أن أعضاء البرلمان من تيار المستقبل الذي يتزعمه الحريري سيختارون الصفدي في الاستشارات النيابية التي من المتوقع أن تبدأ قريباً.
ويبلغ الصفدي من العمر 75 عاماً وهو رجل أعمال بارز من مدينة طرابلس سابق بالبرلمان. وسبق أن تولى حقيبتي المالية والاقتصاد والتجارة.
شفير الانهيار
وسط المعمعة السياسية وفوضى الشارع واستمرار إغلاق المصارف، يقول المراقبون، إن لبنان يقف على مشارف انهيار اقتصادي في حال تأخّر تأليف الحكومة، فإن الأمور قد تذهب نحو مزيد من التصعيد والتعقيد، لاسيما مع بروز بعض المؤشرات التي تعزز هذه المخاوف، ليس أقلها استخدام السلاح وسقوط الضحايا، فضلاً عما يتردد في الأروقة حول حزمة عقوبات جديدة تعدها واشنطن لبعض الشخصيات اللبنانية المتحالفة مع «حزب الله».
أجواء بيت الوسط تشي بأن الرئيس الحريري قد حسم أمره وينوي الاعتذار، فيما «حزب الله» وحلفاؤه هم أيضاً حسموا أمرهم، ودخلوا في مرحلة اختيار البديل، لتأليف حكومة تكنو–سياسية، فيما من المتوقع أن يدعو الرئيس إلى المشاورات النيايبة في القريب العاجل.
المخاوف كبيرة وحقيقية، فهناك خشية متزايدة من الانتقال من الفوضى السياسية إلى الفوضى الأمنية الشاملة، ومن الانهيار المتدرج لليرة اللبنانية إلى الانهيار الاقتصادي الشامل.
Leave a Reply