تتيح السياسة اللبنانية لأقطابها مرونة في التنقل بين المواقف والسياسات يجعلها الأكثر “زئبقية” في محيطها العربي وربما في العالم، والأقدر على “حفظ النوع” وسط مخاطر الانقراض.
ليس وليد جنبلاط نموذجا حصريا في هذه الحالة، ومن كان بلا خطيئة “تقلب” فليرمه بحجر!. إنه “القانون الطبيعي” للسياسة اللبنانية التي نجحت رغم تواتر الحروب والكوارث على الحفاظ على مواقع أقطابها وسط دولة مفككة، أتقنوا إدارتها بما يثير الدهشة (ليس الإعجاب طبعا)، وواصلوا مسيرتهم الطائفية المظفرة فوق جثث الأحلام بدولة ديمقراطية عادلة تكون حاضنة لكل رعاياها بلا رؤوس جسور طائفية ومذهبية.
لم يعد الزعماء اللبنانيون يأبهون كثيرا لمسؤولياتهم في صون وحدة بلدهم والتعايش بين طوائفهم. انتقلت هذه المهمة منذ ما بعد انتهاء الحرب الأهلية الى وكلاء مختصين من خارج الحدود.
أما اللبنانيون فما عليهم سوى تهديد الوكلاء بالانقضاض بعضهم على بعض، وتخريب ما يسعى أولئك الوكلاء الى ترتيبه على مستوى الإقليم.
لبنان بلد بات يعيش على التهديد بحافة الحرب الأهلية كلما سنحت الفرصة للقابضين على خناق الطوائف باظهار انزعاجهم من توزيع الأدوار والنفوذ والحصص. لكن حسنا فعل الوكلاء بالزام الطوائف اللبنانية بائتلاف حكومي أملته ضرورات إدارة الصراع الأكبر حواليهم.
وربما أمكن اللبنانيين العيش بعيدا عن شبح حرب أهلية جديدة للسنوات القليلة القادمة، وهذا انجاز يشكر عليه الأشقاء السعوديون والسوريون والقطريون والإخوة الإيرانيون، ولا يجوز أن ننسى جهود “الأصدقاء” الفرنسيين وعلى رأسهم وزير الخارجية كوشنير الذي أنهك نفسه خلال محنة الفراغ الرئاسي، لاستنقاذ لبنان من براثن الانهيار الدستوري والدخول مجددا الى “بيت الطاعة” التوافقي الديموقراطي.
وهل ننسى جهود “العزيز فيلتمان” وزياراته الخاطفة، ووزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف وسولانا الاتحاد الأوروبي، وبعض الوجوه الصفراء من الصين واليابان التي أسهمت ولو بقدر متواضع في اقناع اللبنانيين بالنزول عن قمة “صخرة الروشة” وتأجيل انتحارهم الى وقت لاحق (ربما أفضل!).
المرء “اللبناني”، لا يمكنه إلا أن يرتاح لهذا “العرس الوطني” الذي زفت فيه “حكومة الوحدة الوطنية” الى فرسان الطوائف، رغم تأخر الاقرار بالمهر المستحق لها في بيان وزاري علق لأسابيع قليلة (الحمد لله) في بند المقاومة ومشروعيتها. كأن هذه المشروعية لن تكمتل إلا بتوكيل البرلماني العريق بطرس حرب (رغم احترامنا له) أو بعدم “تحفظ” وزراء “الكتائب” و”القوات” الذين بدوا وكأنهم “ذهبوا الى العين” ولم يردوا الجواب إلا بعدما لفظ الشيخ سعد الحريري سؤاله المكرر عشر مرات: “قولوا أنت وكيلنا” فقالوها ولكن على استحياء!
كان أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله قد مهد للألسن المتلعثمة باعلان “عهد سياسي” جديد، رأى فيه كثر، كل من موقعه، “لبننة” لحزبه الذي أنشئ في بدايات ثمانينات القرن الماضي، ليكون رأس حربة للثورة الاسلامية الايرانية الوليدة، في صراعها مع أميركا والغرب، لكن حنكة الرئيس الراحل حافظ الأسد جعلت منه رأس حربة في الصراع مع عدو العرب الأقرب والأخطر، اسرائيل، ونجح في استعادة الأرض اللبنانية المحتلة، وفي ارساء معادلة رعب متوازن معه وقوة ردع لأطماعه ومؤامرته على الساحة اللبنانية الهشة والمشرذمة شيعا وطوائف وأحزابا.
والحكومة اللبنانية الوليدة التي تتأهب للمثول أمام “الحاكم الشرعي” لنيل ثقة تحصيل الحاصل، لأن كعكتها من العجين النيابي ذاته الذي سيداعب خصلات شعرها من على منبر الديمقراطية التوافقية اللبنانية الأول.. هذه الحكومة ينتظر رئيسها سعد الحريري الانتهاء من حفلة “الماكياج الوطني” لكي يطير الى العاصمة السورية التي تنتظره على أحر من الجمر، لا تزعجه، أو يفترض ألا تزعجه الزيارة المفاجئة للمدعي العام في محكمة والده الشهيد رفيق الحريري. بل ربما استدعي بلمار الى بيروت لإظهار “العين الحمراء” لحكومة الرئيس سعد الحريري والتذكير بأن لها “وهرة” يجب ألا ينساها مستقبلوه السوريون أو أن يتعاملوا معه وفق مقولة “يتمنعن وهن الراغبات”!
أما الرئيس نبيه بري فهو لم يرتكب حقا “الخيانة العظمى” عندما بادر الى طرح تشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية، لكن بري أخطأ تكتيكيا في تقدير فرحة الطوائف بتجديد عقد “زواج المصلحة” الذي جرى ترتيبه بين أقطاب هذه الطوائف وخرج من قاعة العرس لإطلاق النار ابتهاجا، مما أدى إلى اصابة “عروس الصيغة” بالصدمة، التي استدعت نقلها على عجل على محفة “البطريرك السياسي” ميشال عون الى “الجنرال الروحي” في بكركي، واستنفرت لتهدئتها دوائر القصر الجمهوري في بيان التأكيد الصادر عن الرئيس ميشال سليمان بأن الرئاسات الثلاث ستبقى هي هي والمناصفة ستبقى هي هي من ضمن الاصلاحات الضرورية لترميم النظام الطائفي الذي لم يحن بعد موعد إحالته الى التقاعد.
انتبهوا الى الكلام “الخطير” الذي صدر عن “المطران” ميشال عون (الذي فاجأ اجتماع المطارنة الموارنة بحضوره وإنضمامه إليهم على دوي الدعوة الى إلغاء الطائفية السياسية والشروع بالمداورة بين الرئاسات الثلاث) حول البطريركية المارونية بصفتها “مرجعا تاريخيا” وعن دورها المميز في حياة وتاريخ لبنان ولا سيما في إنشاء لبنان الكبير ودور البطريرك الراحل الياس الحويك في تأسيسه.
من قال بأن التلقب سمة جنبلاطية حصرا؟ الرجل (جنبلاط) يهدد بنقل عدواه إلى كل من “يتنفس” في وجهه، وثمة لقاء قريب بينه وبين الجنرال..
أما “عروس الصيغة” الطائفية فلها أكثر من “رب” يحميها من “علمانيي” الطوائف ومخططاتهم “المشبوهة”!
Leave a Reply