إقرار موازنة ٢٠١٨ قبل مؤتمر «باريس–٤»: تجميل أم إصلاح؟
الوصف الذي أطلقه رئيس الحكومة بعد إقرار الموازنة العامة، بأن لبنان ابتعد عن نموذج اليونان، وهي الدولة المفلسة، والتي كان لبنان على طريقها، بسبب العجز المزمن وخدمة الدين العام التي تستنزف ثلث الموازنة، إضافة إلى الإنفاق العام وعدم ترشيده.
الإفلاس
كانت التحذيرات من وقوع لبنان بإفلاس مالي، قد صدرت من أكثر من خبير اقتصادي ومراجع دولية مالية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكلها تدعو الحكومة اللبنانية الحالية، ومَن سبقها إلى تطبيق إصلاحات، كي لا يحصل مع لبنان ما جرى في اليونان ودول أخرى، من حالات إفلاس لم يتمكن حتى الاتحاد الأوروبي من إنقاذها.
فلبنان الغارق منذ العام 1992، بالديون المتراكمة تحت عنوان «الإنماء والإعمار» بعد نهاية الحرب الأهلية، وتولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة تحت شعار «إعادة الإعمار».
وما حصل هو أن لبنان استدان من المصارف المحلية بفوائد عالية للإعمار، ليتبيّن أن الحكومة غرقت في الاستدانة، ولم تتمكن من إيفاء الديون التي باتت تقدر اليوم بنحو 80 مليار دولار مع زيادة سنوية تراكمية تصل إلى حدود ٥ مليارات دولار، وقد تزيد عن ذلك إذا لم تعالج قضية خدمة الدين التي تستنزف فوائدها ثلث الموازنة العامة سنوياً.
الموازنة المتأخرة
وما فاقم أزمة الدين، ارتفاع نسبة العجز وعدم ترشيد الإنفاق، إذ لم يقر لبنان موازنة مالية منذ العام 2005 في الأحداث الأمنية والأزمات السياسية المتتالية منذ عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعها من تداعيات أدّت إلى انسحاب القوات السورية وتغيير موازين القوى الداخلية، فسيطر فريق «14 آذار» على مفاصل الدولة، وترأس حكومة مارس فيها الفئوية، وخاض معركة نزع سلاح المقاومة، وقد لقي هذا الفريق دعماً أميركياً، ثم عدواناً إسرائيلياً لتصفية المقاومة وسلاحها، وانقسم اللبنانيون بين محور المقاومة ومحور آخر ترعاه السعودية وأميركا، ويرفض وجود سلاح غير الذي يملكه الجيش اللبناني، وترافق ذلك مع حوادث أمنية وأزمات سياسية حادة أدت إلى تأخر إقرار الموازنة عاماً تلو آخر. فتركت المؤسسات تعتمد صرف النفقات على قاعدة الإثني عشرية (شهرياً)، فغابت رقابة مجلس النواب كما الهيئات الرقابية، وبقي لبنان دون موازنة حتى أواخر العام 2017.
إذ بعد مرور عام على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري، أقرّ مجلس النواب الموازنة الأولى للبلاد منذ ١٢ عاماً في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
تخفيض النفقات
وبعد تأخير لمدة شهرين، أقرّت الحكومة الأسبوع الماضي موازنة ٢٠١٨، عشية استحقاقات داهمة تنتظر لبنان، أولها مالي وهو انعقاد مؤتمر دعم لبنان (سيدر) في 6 نيسان (أبريل) المقبل والذي يوصف بأنه مؤتمر «باريس 4»، والذي سيسبق الانتخابات النيابية المقررة في 6 أيار (مايو) القادم، وهو الاستحقاق الدستوري والقانوني الذي ينتظره اللبنانيون منذ سنوات طويلة.
الرئيس نبيه برّي ضغط على الحكومة لإنجاز الموازنة الجديدة قبل انقعاد مؤتمر روما لدعم الجيش والقوى الأمنية والذي يحضره رئيس الحكومة سعد الحريري، تمهيداً لمؤتمر باريس وبروكسل الذي سيبحث أيضاً قضية النازحين في لبنان.
ووصل الحريري إلى روما الأربعاء الماضي محصّناً بموازنة أدخلت عليها إصلاحات كما طالب المجتمع الدولي، وصندوق النقد الدولي ومؤسسات مالية دولية وإقليمية أخرى، لأنه لا يمكن للدول والمؤسسات أن تقدم قروضاً ومساعدات وتلجأ إلى الاستثمار في لبنان، وهو متخم بالفساد والهدر والعجز وقد صُنّف دولياً، أنه من أكثر الدول فساداً، وهذا ما ترك الاحجام عن مساعدته إذا لم يضبط الإنفاق ويرشّق الموازنة.
موازنة 2018
اختلفت أرقام موازنة العام الحالي عن العام السابق، بعد أن أصدر الرئيس الحريري تعميماً إلى الوزارات والإدارات الرسمية، يطلب فيه خفض النفقات في موازنة 2018، بنحو 20 بالمئة، «كي يمنحنا العالم قروضاً ومساعدات»، التي من دونها، لا مشاريع استثمارية في لبنان، ولا مشاريع للبنى التحتية، إذ أن مؤتمر «سيدر» في باريس سيقدم قروضاً ومشاريع استثمارية تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وأن كل مليار دولار يدخل في مشاريع استثمارية، يزيد النمو من 1 إلى 1,5 بالمئة، ويقدم نحو 60 ألف فرصة عمل، كما أكّد الحريري الذي يشير إلى أن ارتفاع النمو يخفض العجز في الموازنة، والتي نجحت الحكومة في أن تخفضه إلى نحو 7,367 مليار ليرة، بحيث وصلت النفقات إلى 23,854 مليار ليرة، أي بتراجع 1,649 مليار ليرة من أرقام الموازنة المقدمة من وزارة المال، وزيادة الإيرادات من 17,934 مليار ليرة إلى 18,686 مليار ليرة، وبلغت خدمة الدين العام 8,264 مليار ليرة بخفض نحو 249 مليار ليرة عن الموازنة السابقة.
الإصلاحات المالية
والموازنة التي تتضمن تخفيضاً للنفقات بنحو 20 بالمئة، استثنيت منها وزارات الصحة والتربية والتعليم العالي والشؤون الاجتماعية، لأنها تمس حياة المواطنين، بل إن إصلاحات دخلت على الموازنة لوقف الهدر فيها، إذ تبيّن أن نحو 600 مليار ليرة تحصل عليها جمعيات وهمية إضافة إلى إقامة مهرجانات تقف وراءها زوجات سياسيين يصرف عليها عشرات المليارات التي لا يعود منها أي مورد لخزينة الدولة، بل يتم استثمار هذه المهرجانات سياسياً، ويستفيد منها بعض الأفراد المحدودين.
وقد سبق لوزير المال الأسبق الياس سابا، أن تقدم باقتراح وقف الهدر في مؤسسات الدولة عام 2004، الذي قدر بنحو 4 مليارات دولار سنوياً يمكن توفيرها على خزينة الدولة، إذا ما تمّ إغلاق عدد من الإدارات غير المنتجة والتي تضم موظفين يقبضون ولا يعملون مثل: المكتب الوطني للدواء، مشروع أليسار، منشآت شركات النفط، سكك الحديد والنقل المشترك، المشروع الأخضر، إضافة إلى مجالس ومصالح رسمية يمكن الإستغناء عنها.
التدبير رقم 3
وأمام هذه النماذج التي يمكن أن تقفل كمؤسسات وتوفر مليارات الدولارات، فإن البحث تجدد حول «التدبير رقم 3» الذي يُعمل به في الجيش منذ العام 1975، إثر إندلاع الحرب الأهلية بحيث بات العسكري مهما كانت رتبته، يحصل على تعويض عن سنة خدمة بثلاث سنوات ومازال هذا التدبير معمول به منذ نحو نصف قرن، بالرغم من استعادة المؤسسة العسكرية وحدتها، حيث استهدف هذا التدبير منع تسرب عناصر الجيش إلى الميليشيات، إضافة إلى تعزيز التطوع في المؤسسة العسكرية، لكن ما كان يصح مع بداية الحرب، لم يعد سارياً اليوم، وقد حاول الرئيس فؤاد السنيورة عندما كان وزيراً للمال أن يوقف العمل بهذا التدبير، لكنه جوبه برفض من المؤسسة العسكرية التي كان قائدها العماد إميل لحود، وعاد البحث في هذا الموضوع مجدداً لتوفير النفقات، لكن قيادة الجيش تعترض على ذلك، وقد قدم قائد الجيش العماد جوزف عون دراسة حول تكاليف الجيش، وقد بحث الموضوع في المجلس الأعلى للدفاع، وأرجأ اتخاذ قرار بشأنه، لمزيد من الدراسة، لدرء التأثيرات السلبية على الجيش الذي يواجه الإرهاب، ويتأهّب للدفاع عن لبنان ضد العدو الإسرائيلي.
تحمّل الوضع المالي
وما أقدمت عليه الحكومة من تخفيض في الموازنة وترشيد الإنفاق، هو خطوة صغيرة جداً، إذ ثمة أبواب يجب وقف الهدر والإنفاق عليها دون جدوى، ومنها الإيجارات التي تدفع للأبنية التي تشغلها مؤسسات وإدارات الدولة، والتي تبلغ مئات المليارات، ويمكن تخفيض 113 ملياراً منها، إضافة إلى استمرار التوظيف في المؤسسات التي تضم آلاف الموظفين الفائضين، وهو ملف لم يعالج بعد، سوى من خلال توزيع بعض الموظفين على الإدارات، حيث لم يلتزم الوزراء بوقف التوظيف الذي يتم لحسابات سياسية وطائفية.
ما حصل هو تجميل للموازنة دون حلول جذرية، وقد سبق للنائب وليد جنبلاط، ومازال يحذر من مخاطر إفلاس الدولة، ودقّ الناقوس محذّراً من استمرار الإنفاق وارتفاع الدين العام وخدمته.
فإقرار الحكومة للموازنة، وإرسالها إلى مجلس النواب لدراستها في لجنة المال والموازنة، ثم إقرارها قبل نهاية آذار (مارس) الحالي، وفق ما أعلن الرئيس برّي، هو إنجاز إيجابي، وإن كان طبيعياً، لكن للظروف أحكام، ومؤسسات الدولة عادت إلى الانتظام.
Leave a Reply