رسمت الانتخابات النيابية اللبنانية ملامح المشهد السياسي للمرحلة المقبلة وكرّست واقعاً جديداً لا يمكن إغفال تأثيراته على إدارة البلاد وعلى سياسة لبنان الخارجية خاصة في ظل المواقف المتراوحة بين الحياد والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة وبين تلك التي تعتبر أن لا حياد ولا نأي في مكافحة الإرهاب التكفيري وفي التصدي للاعتداءات والأطماع الإسرائيلية في لبنان وسوريا على حدٍ سواء.
على المستوى الداخلي، استطاع «حزب الله» أن يكرس حضوره كلاعب أساسي ومحوري تحتاجه كل الأحزاب ويتسابق على خطب ودّه مختلف الأفرقاء وهو مَن كان المستهدف الأول، فتحول إلى مقصدٍ مدلل يتربع على عرش المسرح السياسي اللبناني من غير أن يسحب أذرعه العسكرية الممتدة من لبنان إلى سوريا وفلسطين واليمن.
وفي جردة سريعة، يظهر أن «الثنائي الشيعي» بظهيريه، لم يتمكن فقط من إقفال بيئته بوجه مناوئيه بل تمكن من إحداث خروقات كبيرة في صيدا وبيروت وزحلة والبقاع الغربي وهو ما وفّر للثنائي تحالفاً سياسياً صلباً ينطلق من أكثر من ثلث أعضاء المجلس النيابي ليصل إلى حدود الثلثين فيما يتعلق بالقضايا المصيرية وبسياسة لبنان الخارجية.
وبنتيجة أولية، يدخل رئيس «حركة أمل» نبيه بري إلى المجلس النيابي مرشحاً أوحدَ، فرئيساً مُتوجاً للمرة السادسة على التوالي من دون محاولات الابتزاز التي تعرض لها من قِبل قوى «١٤ آذار» بعد انتخابات ٢٠٠٩. إلا أن «حزب الله»، بخلاف «التيار الوطني الحر»، لن يسعى لتأطير تحالفاته السياسية وحصرها في تكتل نيابي من الطبيعي أنه سيكون الأكبر على مستوى كل لبنان، وذلك للاستفادة من التناقضات النافرة والإشكاليات المستعصية التي تزخر بها دهاليز السياسة الداخلية، ومن دون إغفال الاستعانة بحنكة الرئيس بري و«أرانبه» السياسية التي كان آخرها مفاجئة، النائب المنتخب مصطفى الحسيني في بلاد جبيل.
وكما أوكل «حزب الله» للرئيس بري إدارة تشكيل الحكومة الحالية والتحدث باسمه فإنه سيوكله هذه المرة أيضاً بإدارة التوازنات داخل الحكومة المزمعة وهو ما سيمنح بري قوة تفاوضية استثنائية إذا ما أضفنا إليها العلاقة المستجدة مع القوات اللبنانية والتحاق الزعامة الجنبلاطية بركب الثنائي الشيعي سياسياً.
وفيما بدأ باكراً وزير الخارجية جبران باسيل حملة الاستثمار السياسي لصرف انتصاراته النيابية التي جناها من حساب حليفه «الأزرق» في المكان الخطأ، يبدو أن تشكيل الحكومة سيأخذ منحى طويلاً وسيقضم دون جدوى شهوراً إضافية من حكومة العهد الأولى التي سيسعى باسيل إلى إخراج تيار «المردة» منها وإبقاء حزب «الكتائب» خارجها وتحجيم حصة حزب «القوات اللبنانية» وفي نفس الوقت انتزاع وزارة المالية من «حركة أمل».
وعلى عكس ما كان يخطط له «التيار الوطني الحر» فقد استطاعت «القوات اللبنانية» أن تضاعف حصتها في المجلس النيابي وأن تقتسم الشارع المسيحي مناصفة مع التيار البرتقالي وصمدت الزعامة الجنبلاطية وحافظت على كتلة من ٩ نواب بينما بقي لكل من «المردة» و«الكتائب» حيثيتهما، واحتفظ «القومي» بثلاثة من نوابه المسيحيين، الأمر الذي سيجعل سعي باسيل لتحجيم خصومه ضرباً من المستحيل الذي لن يجني منه سوى مزيد من النقاط السلبية في سجله بنظر المناوئين له وسيدفع بالقوات اللبنانية إلى التقرب أكثر من الرئيس بري.
وليس ذهاب النائب السابق أنطوان زهرا إلى المصيلح مهنئاً سوى رسالة أولية ستتوج بمنح الأصوات القواتية لبري في انتخابات رئاسة المجلس، وهو ما سيؤسس لتفاهم سياسي يجمع بين كل من «القوات» و«أمل» و«الاشتراكي» بمواجهة تحالف باسيل–الحريري الذي ستصعب مهمته في إدارة الحكومة.
وبين كل هذه الاشتباكات والتعقيدات في المشهد السياسي يمسك «حزب الله» بالعصا من وسطها، فالحزب المستهدف إسرائيلياً وعربياً في المحيط والمستهدف دولياً من وراء المحيط يعلم أن أذرعه العسكرية في الخارج مهما بلغت قوتها لا بدّ لها من حاضنة سياسية داخلية صلبة وقوية تحميها وتؤمن لها أمنها وأمانها الإجتماعيَيْن.
وكان «حزب الله» قد أعلن في وقت الحملات الانتخابية بلسان أمينه العام عزمه على محاربة الفساد وإصلاح إدارات الدولة وإنماء المناطق المحرومة تاريخياً مع ما يستتبع ذلك من معارك داخلية ضد خصوم وحلفاء قد يجد الحزب نفسه في مواجهة معهم وهو الذي قايض منذ دخوله الندوة البرلمانية في تسعينيات القرن الماضي الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد بحماية المقاومة وسلاحها، فهل يستطيع «حزب الله» الجمع بين أهدافه الاستراتيجية الخارجية –بعد أن أصبح قوة عسكرية إقليمية يُحسب لها حساب– وبين مطالب حلفائه المتصارعين فيما بينهم على اقتسام المغانم والحصص وبين عزمه على الإصلاح ومحاربة الفساد في ظل حاجته لمظلة سياسية داخلية يؤمنها له أهل المحاصصة الطائفية أنفسهم؟.
Leave a Reply