وليد مرمر – لندن
لم يكن اعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري عن تشكيل الحكومة مفاجئاً لمعظم المراقبين بعدما يقارب الـتسعة أشهر من المماطلة والتسويف.
خلال الأشهر الماضية كان الحريري قد قرر اعتماد استراتيجيات جديدة في التأليف تتجاوز الدستور والأصول المتبعة في تشكيل الحكومات، بحيث لا يكون لرئيس الجمهورية أي رأي في اختيار الوزراء بل يكون مجرد باش كاتب يوقع على التشكيلة التي يسلمه إياه الرئيس المكلف. وقبل اتفاق الطائف كان رئيس الجمهورية يملك كافة صلاحيات تسمية رئيس الوزراء والوزراء وإقالتهم، ثم نُزعت هذه الصلاحيات المطلقة للمارونية السياسية بعد اتفاق الطائف وأصبح دور رئيس الجمهورية محدوداً بمشاركته في تسمية الوزراء مع رئيس الوزراء الذي يكلفه المجلس النيابي. ولقد بدا واضحاً أن الحريري حاول في الأشهر الماضية نزع هذه الصلاحية الأخيرة من رئيس الجمهورية متذرعاً بـ«المبادرة الفرنسية»، وهو ما لم يتمكن من تحقيقه بسبب تمسك الرئيس عون بصلاحياته الدستورية المتبقية ورفضه الرضوخ لفرض أعراف جديدة في التأليف.
ولكن هل كان الرئيس الحريري حقاً يريد التأليف أم أن كل تشكيلاته التي حملها إلى رئيس الجمهورية كانت للمراوغة وكسب الوقت في انتظار الرضى السعودي الذي لم يأت؟
منذ البداية، كان واضحاً أن ثمة «فيتو» سعودياً على تكليف الرئيس الحريري. وهذا ما أكدته كل المعطيات والتسريبات. ومن هذا القبيل ما جاء في موقع «أخبار الخليج» في آذار (مارس) الماضي الذي ذكر بأن «ما يفعله سعد الحريري هو فقط التأخير ثمّ التأخير حتّى تصل كلمة السرّ السعوديّة، فلا حكومة قبل أن ترضى المملكة العربيّة السعوديّة التي رفضت حتّى السّاعة وبحسب المعلومات المؤكّدة تحديد موعد للحريري مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عدّة مرّات، والجواب من الرياض كان «فليلتقِ الحريري وزير الخارجيّة السعودي فقط». وأشار الموقع إلى أن ما يتردد في أروقة القصور السعودية كان يتركز حول مقولة واحدة «دفعنا ديّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري طيلة 15 عاماً وكفى! أما إذا تنازل الحريري وشكّل الحكومة بوجود ممثلين لـ«حزب الله» فسيكون هناك بيان شديد اللهجة من المملكة تجاهه ولا تستبعد المصادر سحب الجنسية السعودية منه»!
وفي هذا السياق، قالت مصادر مطلعة إن الحريري لم يستطع استعادة الغطاء السعودي بعد أن وضعت الرياض شروطاً قاسية لعودتها إلى لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً من أهمها اعتذار الحريري عن تأليف الحكومة وتكليف شخصية أخرى لتأليف حكومة تحضر للانتخابات النيابية المقبلة.
ومما عزز فرضية «الفيتو» السعودي على تكليف الرئيس الحريري هو ما بدا واضحا في الأيام الماضية لدى متابعي نشرات أخبار محطة «أم تي في» (الممولة من السعودية وفقا لوثيقة ويكيليكس رقم 83763) بأن العلاقة بين الرئيس المكلف والسعودية تعاني من تأزم قد لا يكون حله قريباً. وهذا ما كشفت عنه مقدمة النشرة يوم الأربعاء الماضي والتي جاء فيها: «ما هكذا تشكل الحكومات! فالتشكيل الواقعي الحقيقي يفترض قيام حوار وتشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف لا مجرد رمي تشكيلة من 24 وزيراً، وإعطاء مهلة 24 ساعة، وانتظار جواب! لماذا تصرف الحريري بهذا الأسلوب المتضمن الكثير من التحدي؟.. فتشوا عن الرئيس بري وتعليماته! بل فتشوا عن استخدامه لسعد الحريري متراساً أمامياً لتصفية حساباته مع العهد ومع جبران باسيل. فهل هكذا يتصرف رجال الدولة يا حضرة الرئيس المكلف؟ وكيف تحلل لنفسك أن تحول عملية التأليف متنفساً للحساسيات الشخصية وساحة لتصفية الحسابات السياسية». وتابعت المحطة الكاشفة عن رأي النظام السعودي في العملية السياسية اللبنانية «إن الحريري حدد موعد أطلالته التلفزيونية مساء غد ما يعني انه أعد سيناريو متكاملاً لخروجه من دائرة التكليف، وأنه يريد لعملية خروجه أن تكون استعراضية شعبوية وأن تظهره بصورة البطل بعدما ماطل وسوّف حوالي تسعة أشهر».
وكان الحريري قد أجرى زيارات إقليمية عدة محاولاً التعويل على مساعٍ فرنسية وإماراتية ومصرية لعقد مصالحة بينه وبين وليّ العهد السعودي، باءت كلها بالفشل. وكانت قد تسربت معلومات أن الرئيس السيسي قد أخبر الرئيس الحريري خلال زيارته الأخيرة لمصر أن ابن سلمان «يرفض ذكر اسمه».
من جهتها، وفي تعليقها على اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة قالت الرئاسة اللبنانية «إن الحريري لم يكن مستعداً للبحث في أي تعديل من أي نوع كان وإن رفضه مبدأ الاتفاق بخصوص التشكيلة الحكومية دليل على أنه اتخذ قراراً مسبقاً بالاعتذار».
وأضاف بيان الرئاسة «إن عون طلب من الحريري تعديل الصيغة الحكومية والعودة إلى الاتفاق الذي تم التوصل إليه سابقاً». وأشارت الرئاسة أن عون «سيحدد موعداً للاستشارات النيابية الملزمة بأسرع وقت ممكن». وكانت مصادر في بعبدا قد وصفت سلوك الحريري بأنه «انقلاب تام على الاتفاق الذي تولّى رعايته السيد حسن نصرالله والمسعى الذي دخل فيه الرئيس بري، أي أنه انقلاب على صيغة الاتفاق ومعادلاته وتوازناته وأسمائه، فبعدما كان توزيع الحقائب قد حُسم إذا بالحريري يطيح بهذا التوافق ويتعمّد تسمية كل الوزراء بنفسه لينتقل بعدها إلى إطاحة الشق الثاني من الاتفاق الذي ينصّ على أن الوزيرين المسيحيين يُسمَّيان بالتوافق بين الرئيسين. وفيما خص بعض الوزراء، فإن وزير المالية المقترَح يوسف خليل كان موظفاً على مدى 30 سنة لدى رياض سلامة كمدير العمليات المالية في مصرف لبنان وواضع الهندسات المالية، أما أنطوان شديد المقترَح لتولي وزارة الدفاع فهو أحد المستشارين في جمعية المصارف، فيما وزيرة العدل المقترحة، لبنى مسقاوي، هي ابنة تيار المستقبل»!
ولهذا فقد سمت جريدة «الأخبار» تشكيلة الحريري التي لم ترَ النور «حكومة حزب المصرف وشركائه»! فكيف إذن ستكون لهذه الحكومة القدرة على مواكبة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وباقي الوزارات والصناديق إذا كان «حاميها حراميها»؟
فهل سيفاقم اعتذار الحريري من حالة الإنسداد السياسي الذي يضاعف من معاناة اللبنانيين اليومية على كافة الصعد؟
إن الأشهر التي تلت التكليف كانت الأشدّ انهياراً على السكان وقدراتهم المعيشية. وفور إعلان اعتذار الحريري يوم الخميس الماضي ارتفع سعر الدولار ليتخطى عتبة 22 ألف ليرة. ثم بادر مناصرو تيار «المستقبل» إلى قطع الطرقات في مناطق نفوذهم وسط دعوات منظّمة للنزول إلى الشارع، وحصلت مواجهات مع الجيش اللبناني موقعة عدداً من الجرحى.
لكن هل كان اعتذار الحريري نتيجة عدم التفاهم المعلن بينه وبين رئيس الجمهورية، أم أن الاعتذار كان قد طُبخ دولياً بتوابل محلية؟
المطلعون على تطورات الأوضاع اللبنانية يجزمون بأن الاعتذار هو قرار إقليمي–دولي لأسباب عديدة أهمها أن أية حكومة قادمة ستكون حكومة غير شعبية لما سيتوجب عليها من مسؤوليات تتعلق بقرارات لا تصب في مصلحة المواطنين مثل رفع الدعم عن السلع الحيوية كالأدوية والمحروقات مما سيؤثر سلباً على فريق الحريري في الانتخابات النيابية المقبلة لو كان هو الرئيس الذي سيقوم بهذه الخطوات. ولذك كان هناك قرار أميركي–فرنسي بتنحيته، نزولاً عند الرغبة السعودية، لفتح معركة الانتخابات النيابية المقبلة مبكراً بهدف تامين أغلبية نيابية معادية لـ«حزب الله».
والسؤال المطروح الآن: ماذا بعد الاعتذار؟
يبدو أن رئيس الجمهورية سيؤجل الاستشارات النيابية الملزمة إلى ما بعد عيد الأضحى، ولذلك فإن الأيام المقبلة لن تكون سوى وقتاً ضائعاً للتجاذب السياسي وربما الأمني بانتظار الاستشارات التي يقال إنها قد تؤدي إلى تسمية الرئيس نجيب ميقاتي حسب بعض التوقعات، أو شخصية سنية أخرى لا تشكل تحدياً للرئيس الحريري. ولكن تتكهن بعض المصادر بأنه من غير المستبعد أن تبقى حكومة الرئيس حسان دياب في حالة تصريف أعمال إلى حين موعد الانتخابات النيابية المقررة في العام القادم، مما قد يعني تأجيل الانتخابات.
وفي مقابلة له مع الزميلة مريم البسام على قناة «الجديد»، يوم الخميس الماضي، كان قد حُدد موعدها مسبقاً في مؤشر واضح على نية الحريري المسبقة للاعتذار، حمّل الحريري فريق رئيس الجمهورية مسـؤولية التعطيل، لائماً «حزب الله» على دعمه للتعطيل حسب قوله، وشاكراً الرئيس بري على جهوده في المساعدة على التأليف. ونفى الحريري خلال المقابلة وجود أزمة بينه وبين السعودية التي «لم تقدم للبنان سلاحاً ولم تقم بـ7 أيار إنما أعطت السلام للبنان ولا تريد إلا الخير له ككل دول الخليج الذين لديهم مشكلة مع فريق اسمه حزب الله». وأكد الحريري أنه «قادر على تثبيت سعر الدولار والتفاوض مع صندوق النقد وواثق من الفوز بالانتخابات النيابية إذا شكّلتُ حكومة».
فهل دخل لبنان في المجهول؟
لا شك أن الاعتذار سيرفع من منسوب التوتر في لبنان بسبب احتمال ازدياد الشعور بالغبن لدى الطائفة السنية وبسبب انسداد الأفق السياسي في ظل تفاقم الأوضاع المعيشية إلى مستويات غير مسبوقة. فهل سيعمد الحريري إلى تزكية رئيس الحكومة المقبل كما تريد كل الأطياف السياسية منعاً للاحتقان السني أم أنه لن يسمي أحداً للتأليف كما صرح في المقابلة التلفزيونية؟
وهل سيعمد فريق ما كان يُعرف بـ«8 آذار» إلى تسمية «حسان دياب آخر» يرأس حكومة انتقالية بمباركة إقليمية ودولية لإدارة الأزمة والإشراف على الانتخابات الموعودة أم ستستمر حكومة دياب بتصريف الأعمال؟ مهما كانت السيناريوهات المقبلة فإن الأكيد أن اعتذار الحريري لا شك سيفاقم من الأزمة السياسية الراهنة المفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها محاولة تدويل الأزمة الذي يسعى إليه البعض ويتوجس منه الكثيرون.
Leave a Reply