كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في المشهد الأمني اللبناني، يظهر مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، كأحد أبرز البؤر المسلحة خطورة على الاستقرار، لسكانه أولاً، والذي يبلغ تعدادهم نحو 125 ألف نسمة يسكنون في حوالي كيلومتر مربع، وللبنانيين عموماً لاسيما مَن هم في الجوار كصيدا وشرقها، في ظل تهديد المسلحين للطريق الدولي الذي يربط بين الجنوب وبيروت، وهو الشريان الحيوي للجنوبيين، كما لـ«حزب الله» والمقاومة.
والمخيم الذي لا يمر يوم دون حصول اشتباك فيه بين فصائل فلسطينية، أو عائلية، أو عمليات اغتيال أو تفجير سيارات ومحلات وممتلكات، مما وضعه في خانة استحالة ضبط الأمن فيه وفشل محاولات عدة، قامت بها لجان أمنية، وأخرى أهلية فلسطينية، لكن دون جدوى، وهو الوحيد بين المخيمات في لبنان الذي تحدث فيه التوترات الأمنية، كونه تتمركز فيه كل الفصائل الفلسطينية التي تعتبره عاصمة الشتات الفلسطيني. ومَن يسيطر عليه يمسك بالقرار الفلسطيني الذي يدور الصراع عليه بين الفصائل والمنظمات التي تدور في محاور عربية وإقليمية ودولية.
الصراع على القرار الفلسطيني
والصراعات بين الفصائل في عين الحلوة تعود إلى حقبة نشوء المقاومة الفلسطينية، التي اصطدمت بأنظمة عربية، وخاضت حروباً دموية، كما حصل في الأردن وما سمي «أيلول الأسود» عام 1970، أو المشاركة الفلسطينية بالصراع الداخلي اللبناني، الذي أدّى إلى حرب أهلية عام 1975، وما تبع ذلك من صراع أيضاً بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الذي رفع شعار «القرار الفلسطيني المستقل» والنظام في سوريا، لاسيما في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، إذ خاض الطرفان صراعاً مباشراً بين الجيش السوري وحركة «فتح»، أو مع حلفاء دمشق سواء كانوا في منظمات فلسطينية أو أحزاب لبنانية، وكان من بين هذه المعارك انشقاق حركة «فتح»، بين عرفات والعقيد «أبو موسى» الذي أنشأ حركة «فتح الإنتفاضة» بعد معارك طرابلس عام 1983 ومخيمي البداوي ونهر البارد، حيث لجأ «أبو عمار» إلى عاصمة الشمال بعد حوالي عام على خروجه من بيروت مع قيادات وعناصر فلسطينية من مختلف التنظيمات، إثر الغزو الصهيوني للبنان صيف 1982، فاختار هو تونس، وآخرون سوريا، لكن إقامته لم تدم في طرابلس، فأخرجه منها الجيش السوري بمشاركة فصائل فلسطينية حليفة لسوريا، إلا أنه ترك وراءه خلايا تابعة له من تنظيمات لبنانية لاسيما حركة «التوحيد الإسلامي» برئاسة الشيخ سعيد شعبان، والتي تدين بالولاء لـ«الإخوان المسلمين»، الذين كانوا في معارك طاحنة مع النظام السوري منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وقد أكملوها في طرابلس بعد فشلهم في مدينة حماه السورية، وهروب مجموعات من «الإخوان المسلمين» إلى الشمال.
فالصراع على القرار الفلسطيني، هو الذي كان يحرك القتال والمعارك في المخيمات، وهو ما جرى أيضاً في ما سُمي «حرب المخيمات» بين «حركة أمل»، حليفة سوريا، و«فتح» برئاسة عرفات في الثمانينات أيضاً من القرن الماضي، وتركزت على مخيمات بيروت (صبرا وشاتيلا) والضاحية الجنوبية (برج البراجنة)، وانتهت بسيطرة تنظيمات فلسطينية حليفة لسوريا على هذه المخيمات ومن أبرزها «الجبهة الشعبية–القيادة العامة» برئاسة أحمد جبريل، و«الصاعقة» و«فتح الإنتفاضة»، وهو ما عرف لاحقاً بتحالف القوى الفلسطينية.
إسلاميون على أنقاض «فتح»
ولا يختلف ما يجري في مخيم عين الحلوة، عما جرى في أعوام وعقود سابقة، وفي مخيمات عدة في لبنان، كان آخرها قبل عشر سنوات عندما حاول شاكر العبسي الذي انشق عن حركة «فتح» المركزية، والتحق بـ«فتح الإنتفاضة»، ليرمي نفسه في حضن «أبو مصعب الزرقاوي» الذي لمع نجمه بعد الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وارتباطه بتنظيم «القاعدة» الإرهابي، والذي أنشأ له فرعاً في العراق، قام بأعمال عسكرية ضد القوات الأميركية، وفي كثير من الأحيان، ضد الشيعة والمسيحيين، إذ حاول العبسي أن يقيم «إمارة إسلامية» في لبنان انطلاقاً من أحد المخيمات، فرأى بنهر البارد المكان الأنسب له، لأنه يقوم في بيئة مذهبية قد تحتضنه، بعد أن فشل بذلك في مخيمات بيروت، وصعوبة وصوله إلى الجنوب، إلا من خلال عودة التمركز في منطقة العرقوب التي أقام فيها عرفات ما سُمي «فتح لاند»، عند تخوم فلسطين المحتلة، في شبعا وكفرشوبا والهبارية وراشيا الفخار وغيرها من البلدات، إذ راودت العبسي أن يعود إلى هذه المنطقة ذات الغالبية السّنّية، وتحت عنوان رفض القرار 1701، وتحويل الجنوب ولبنان إلى «أرض للجهاد» وليس «أرضاً للنصرة»، كما جاء في رسالة متلفزة بثها أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة» بعد وقف العمليات العسكرية بين الجيش الإسرائيلي و«حزب الله» الذي اتهمه الظواهري أنه تحول إلى «حرس حدود» لإسرائيل، وأن القوات الدولية، هي قوى استعمار صليبية يجب قتالها، وهو ما حصل، باستهداف عناصر منها بأعمال تفجير للسيارات التي تقلهم، وسقط منهم قتلى وجرحى.
حاول العبسي، أن يخطف القرار الفلسطيني، ويؤسس لحالة إسلامية راديكالية في المخيمات الفلسطينية في لبنان، تكون بديلاً لتلك المرتبطة بعقائد مدنية ، ومنها ماركسية وقومية وعلمانية، لكن الجيش اللبناني أنهى هذه الظاهرة، في معارك دامت ثلاثة أشهر، تكبّد فيها خسائر فادحة في الأرواح فسقط له نحو 170 شهيداً بين ضابط وجندي ومئات الجرحى.
وعين الحلوة، قد يتحوّل إلى نهر بارد جديد، وهو ما يخشى منه قادة فصائل فلسطينية، إضافة إلى المجتمع الأهلي الفلسطيني، الذي يدعو إلى تسليم الأمن في المخيم إلى الجيش الذي منع القرار السياسي عام 1993 من أن يدخله، إذ كان النظام السوري ينظر إلى الموضوع من زاوية كيف سيحاصر عرفات ويجرّده من أوراق القوة، بعد أن ذهب إلى الحل المنفرد في أوسلو، فمنعه من الإمساك به، وهو كان بدأ يخسر الفلسطينيين في «الدياسبورا»، لأن إسرائيل رفضت الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين، وأرجأت البت به.
فإضعاف «فتح» في المخيمات ومنها عين الحلوة، لم تعوضه تنظيمات «تحالف القوى الفلسطينية» الذي رفع شعار رفض «إتفاق أوسلو المذل»، وملأت الفراغ قوى إسلامية فلسطينية، مع بداية صعود حركة «حماس» التي تنتمي إلى «الإخوان المسلمين» ولقيت تأييداً من «محور المقاومة»، لاسيما منها العمليات الاستشهادية، في مقابل تعثر محور التسوية، وعدم تنفيذ ما اتفق عليه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عرفات وقادة العدو الإسرائيلي، لاسيما رئيس الوزراء اسحق رابين، وهذا ما أدّى إلى شرذمة «فتح» التي فقدت صورتها كمقاومة وكفاح مسلح في وجدان وعقل الشعب الفلسطيني، وباتت التنظيم الأضعف الذي خرقه الفساد حتى مع إقامة السلطة الفلسطينية، إضافة إلى صراع المحاور، ولعبة النفوذ داخل الحركة التي لم يعد عرفات يتمكن من قيادتها، بعد أن حوصر في الضفة الغربية وتحديداً في رام الله، حيث مقر سلطته وحكومته.
تغلغل التطرف
وهكذا بدأ مخيم عين الحلوة كما غيره من المخيمات يسقط أمام التطرف الإسلامي الذي نما مع الحرب في العراق، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصعود الخطاب المذهبي، واكتمل مع بدء ما سُمي «الربيع العربي» الذي اختطفه من محركيه المدنيين وأصحاب المطالب المحقة بالحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتأمين فرص العمل، إذ عمل «الإخوان المسلمون» والمجموعات «الوهابية الفكر» إلى خطف «الثورة»، ليتقدم العنف والتطرف، ودخول تنظيم «القاعدة» على الخط، ليبرز في المقدمة، وهذا الوضع ظهر في سوريا، كما في ليبيا واليمن والعراق ودول أخرى، وفي لبنان بدأ في عرسال وكاد أن يمتد إلى الشمال والذي خرج منه شبان بالآلاف للقتال إلى جانب «النصرة» و«داعش» في سوريا والعراق، إلا أن الجيش وقوى أمنية أخرى أحبطت هذه المحاولات التي نجحت في مرحلة ما قبل تحرير جبال القلمون والزبداني، إذ كانت هذه المناطق في سوريا مصنعاً للإرهابيين، فتم قطع الطريق عليهم ومحاصرتهم، حيث تراجع دور عرسال كبؤرة أمنية، بعد أن ضاق أهاليها ذرعاً من وجود الإرهابيين بينهم في مخيمات للنازحين السوريين أو في الجرود.
وبقي مخيم عين الحلوة الذي، ومنذ عشر سنوات، ازداد وجود المجموعات الإرهابية فيه، وهي تعمل على قضم أحيائه والتمدد فيها، وهو ما تم في أحياء التعمير والطوارئ والطيري وحطين والصفصاف، ووضعت نصب أعينها حركة «فتح» بممارسة الإرهاب عليها بالاغتيال والتفجير والاشتباكات المتقطعة، كي تقضي على أكبر تنظيم مسلح في المخيم، وبذلك تخلو الساحة لها، وهو ما تنبّه له، أحد قادة «فتح» العسكريين في المخيم العميد محمود عيسى المعروف بـ«اللينو» والذي شغل منصب قائد الكفاح المسلح في المخيم، فحاول منذ سنوات القضاء على ظاهرة نمو تنظيمات إسلامية تعمل وفق ما يطلبه تنظيم «القاعدة»، كعصبة الأنصار التي كانت وراء إغتيال الشيخ نزار الحلبي رئيس «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» المعروفة بـ«الأحباش» في العام 1994، واغتيال قضاة أربعة على قوس المحكمة في صيدا، لأنه تمّ تنفيذ حكم الإعدام بالمجرمين الذين اغتالوا الحلبي.
وقفت بوجه «اللينو» الذي كان ينسق مع مخابرات الجيش في الجنوب، قيادات في «فتح» ومنها اللواء منير المقدح الذي يتردد أنه هو مَن سهّل نمو المجموعات الإسلامية، عندما لم يكن يفرض الأمن بالقوة بل بالتراضي، وهذه تجربته في “القوة الأمنية المشتركة” التي ضمت مختلف الفصائل الفلسطينية.
تطهير المخيم
فالخلافات والصراعات داخل «فتح» على مَن يمسك بقرارها، حوّلها إلى حالة ضعيفة أمام تمدد «القوة الإسلامية»، وسعى «اللينو» إلى أن يتواصل مع محمد دحلان القيادي في «فتح» والذي فصله محمود عباس منها، لأنه بات اسماً ينافسه على رئاستها كما على السلطة الفلسطينية، لكن دحلان الذي أُخرج من «فتح» عاد إليها في لبنان من خلال «اللينو» الذي أعلن عن إنشاء «التيار الإصلاحي» في «فتح»، وبدأ يستقطب عناصر، حيث توفر له المال والمساعدات اللتين تحملهما إليه زوجة دحلان السيدة جليلة، حيث تزامن حضورها الأخير الأسبوع الماضي، مع زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن)، وأشارت التقارير الأمنية، إلى أن اندلاع المعارك في مخيم عين الحلوة الذي كانت في زيارته، تردد بأنها رسالة لعباس، أنه لم يعد يملك ورقة المخيمات في لبنان، وأن دحلان يشاركه القرار فيها، وهو الذي يتلقى الدعم السياسي والمالي من دول عربية، ومنها الإمارات العربية المتحدة ومصر، إذ هو يقف بوجه «حماس» كحركة «إخوان مسلمين»، التي يتهمها النظام المصري أنها تساند مجموعات إرهابية في سيناء، وقد تنصلت «حماس» من ذلك وقررت أن تعيد ترتيب تحالفاتها ومنها العودة إلى تعزيزها مع إيران و«حزب الله»، وهو ما برز في انتخابات مكتبها السياسي الأخير في غزة.
فمخيم عين الحلوة، هو في عين العاصفة، ولم يعد الوقت لصالح أهله الذين يطالبون الجيش بدخوله وفرض الأمن فيه، لكن شروط المؤسسة العسكرية، هو تطهيره من الإرهابيين وتسليم المطلوبين منه إلى القضاء، ليبدأ البحث في تسليم السلاح، كما رفض الجيش فكرة تسيير دوريات مشتركة مع عناصر فلسطينية، لأنه لا يقبل أن يشاركه أحد في مهامه، ولا يقبل العودة إلى الأمن بالتراضي أو «اتفاق القاهرة»، فليس من حل إلا باستسلام الإرهابيين، أو بقاء الصراع على المخيم.
Leave a Reply