تقدم الموضوع الاقتصادي، على تشكيل الحكومة في لبنان، التي كادت أن تولد نهاية الأسبوع الماضي، لولا بروز عقد وزارية، وعدم قبول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالصيغة التي اقترحها عليه الرئيس المكلف سعد الحريري، والذي أعطى أحجاماً في التشكيلة لكل من «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، أكثر مما هي، واستبعد كتلاً وقوى سياسية وحزبية عنها، وبات حل العقد عند الرئيسين عون والحريري كونهما يشتركان دستورياً في التوقيع على مراسيم تشكيلها الذي يقصر ويطول وفق اتفاق الرئيسين على شكل الحكومة وتكوينها، وقد رمى الرئيس نبيه برّي الكرة في ملعبهما قبل أن يسافر في إجازة إلى الخارج، كإشارة إلى أن ولادة الحكومة ليست قريبة.
الوضع النقدي
وفي ظل الانشغال السياسي والرسمي بتشكيل الحكومة ظهرت إلى الواجهة مسألة وجودية تتعلق بالوضع النقدي والمالي، إذ بدأ خبراء اقتصاديون وماليون يحذرون منذ العام الماضي وقبل نهايته من أن لبنان مقبل على أزمة مالية، تعيده إلى مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، وهو ما جاء في تقرير للخبير الاقتصادي توفيق كسبار قدمه في ورقة متخصصة تحت عنوان «الأزمة المالية في لبنان»، حيث أشار فيها إلى «أن عواقب هذه الأزمة يمكن أن تكون مدمرة على جميع المستويات، وتتخطى بشكل كبير عواقب الأزمة المالية التي شهدتها البلاد في منتصف ثمانينات القرن الماضي إثر انهيار قيمة الليرة اللبنانية. وستشمل هذه العواقب انخفاضاً حاداً في دخل معظم الأسر في البلاد وثرواتها، وزيادة حادة في الإفلاس والبطالة، وضبابية واسعة النطاق حول المستقبل، في ظل حكومة مصعوقة وعاجزة، (الحكومة الحالية برئاسة الحريري والتي تصرف الأعمال)، ما سيدفع بعشرات الآلاف إلى الهجرة، إضافة إلى اختلال التوازن الاجتماعي والسياسي الهش أصلاً».
سلامة يدق ناقوس الخطر
وليس كسبار وحده مَن دق ناقوس الخطر قبل نحو عام، فإن غيره من الخبراء الذين تحدثوا عن أن قيمة الليرة اللبنانية قد تنخفض مع استمرار تدهور الوضع المالي لمصرف لبنان، منذ حوالي العقد، وتصاعد منذ العام 2015 في مستوى غير اعتيادي مع تحول صافي الاحتياط النقدي لديه إلى سالب، ما يعتبر وفقاً لكل المعايير مؤشراً على خلل في الوضع المالي واستقراره، وهو ما حمل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى زيارة المسؤولين في الدولة ودق ناقوس الخطر أمامهم، من أن استمرار الإنفاق المالي العام قد لا يدوم، إذ تستدين الدولة من المصارف بسندات خزينة لتغطية مصاريفها مما يعطي إشارات سلبية على إمكانية ضبط سعر صرف الليرة، والذي نجح مصرف لبنان في الحفاظ عليه منذ حوالي أكثر من عقدين من الزمن بتثبيت سعر الصرف على 1500 و1507 لليرة مقابل الدولار الأميركي.
الدين العام
فما أبلغه حاكم مصرف لبنان إلى الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه برّي وسعد الحريري، كان من أجل الإسراع في تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية، وهذا ما دعا إليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات مالية دولية منها مؤسسة «موديز» التي أعطت في تقرير لها إشارات سلبية حول لبنان لجهة تصنيفه الائتماني المالي، مع ارتفاع الدين العام من 79,3 مليار دولار في نهاية 2017، إلى 82,3 مليار دولار، مع الربع الأول من العام 2018، أي بزيادة 3 مليار دولار، حيث بلغ أكثرمن 152 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يزيد العجز في الموازنة الموزعة على الرواتب والأجور وخدمة الدين العام، وهذه هي الأزمة الحقيقية للمالية العامة التي يحددها الخبراء بالآتي: الإنفاق العام زائداً خدمة الدين يساوي ضرائب زائداً إصدارات خزينة، وهذا ما هو معتمد منذ العام 1992، بما يسمى «الحريرية الاقتصادية»، التي يقف ضدها كثيرون منذ أيام الرئيس رفيق الحريري الذي استدان تحت شعار «إعادة الإعمار» ومن ثم قدوم السلام مع العدو الإسرائيلي إلى المنطقة ولبنان، لكن ما حصل هو ارتفاع الدين العام وتصاعد خدمته، دون أن يحصل نمو اقتصادي إلا في مراحل قليلة جداً، وارتفع الدين العام من 3 مليار دولار في العام 1993 إلى 36 مليار دولار عام 2003، ليصل في العام 2016 إلى 75 مليار دولار و79,3 مليار عام 2017، و82,3 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي.
الإنفاق غير المجدي
ولقد حصل منذ العام 2006 تأخير في إقرار الموازنة العامة للدولة، فكان الصرف يتم على قاعدة الإثني عشرية، من دون رقابة مجلس النواب، وفي ظل أزمات سياسية ودستورية وأمنية مما خلق خللاً في المداخيل والمصاريف وكذلك في حصول إنفاق غير مجدي، وهذا ما تسبب بالعجز في الموازنة وإنخفاض النمو، إلا في مرحلة ما بعد إتفاق الدوحة تحسن النمو إلى نحو 7 بالمئة ليسجل منذ سنوات إنخفاضاً إلى مستوى ما بين 1 و2 بالمئة، وهذا ما يؤثر على الاقتصاد.
الإصلاحات
ومع ارتفاع الدين العام وخدمته، فإن الحكومات المتعاقبة لم تعمل على تحقيق إصلاحات بنيوية في الاقتصاد كما في المالية العامة للدولة، إذ تمّ توظيف نحو 25 ألف موظف في السنوات الثلاث أو الخمس الماضية، مما يشكل أعباء إضافية على الموازنة بحيث ارتفعت الرواتب والأجور إلى نحو 5 مليار دولار من 2007 إلى 2016، وهي زادت مع إقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام والأساتذة، مما فتح الباب إلى مصالح ومؤسسات أخرى في الدولة إلى المطالبة بإنصافهم أسوة بزملاء لهم.
وهذا التوظيف في مؤسسات الدولة، والذي يدخل في الباب السياسي، لا ينطبق مع دعوة المؤسسات المالية الدولية، الحكومة في لبنان، إلى تحقيق إصلاحات ومنها تخفيض عديد موظفي القطاع العام بما فيهم المؤسسات العسكرية والأمنية، كي يتم تحقيق التوازن بين الدخل والانفاق بتخفيض الفائض في موظفي الدولة، وإيقاف التوظيف في مؤسساتها، لكن هذه العملية الاصلاحية لم تنجح بسبب التدخلات السياسية في الإدارة.
«سيدر–١»
وانعقد مؤتمر «سيدر–1» في باريس، وهو استكمال لمؤتمرات سابقة عقدت منذ أيام الرئيس رفيق الحريري، لمساعدة الاقتصاد اللبناني وتحفيزه وإجراء إصلاحات مالية في نظامه ، لكن لم تنجح كل هذه المحاولات لأن القرار السياسي اللبناني القائم على المصالح الطائفية والسياسية هو ما يعطل الإصلاح، إذ فشلت مؤتمرات باريس 1 و2 و3 وقبلهم مؤتمر «أصدقاء لبنان» في واشنطن في وقف ارتفاع الدين العام الذي كان للنمو الاقتصادي أن يمتصه لو جرت عمليات إصلاح، الذي طالب مؤتمر «سيدر» القيام بذلك، وربط تقديم القروض والمساعدات التي أقرها وهي بقيمة 11,3 مليار دولار بحصولها، والمتوقعة من الحكومة التي ستتشكل، لأنه من دون هذه القروض الموزعة على مشاريع للبنى التحتية وخلق فرص عمل، فإن لبنان مقبل على أزمة مالية واقتصادية كارثية، وأخطرها هو الحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية، حيث يحاول حاكم مصرف لبنان تطمين اللبنانيين حول ليرتهم وقوتها الشرائية ومدخراتهم، إلا أن ما يحكى في مواقع القرار هو غير ذلك، وبعضه يخرج إلى الإعلام كإشارات التحذير التي يطلقها الرئيس برّي، من أن الوضع الاقتصادي لا يحتمل المساومة والتسويف في تشكيل الحكومة التي أمامها عمل كبير وتحديات مالية واقتصادية، إذ أبلغ وزير المال علي حسن خليل رئيس الجمهورية بأن لبنان وصل إلى الخط الأحمر مالياً، ورفعت قطاعات عدة محذرة من الإفلاس، الذي بدأ يظهر في القطاع العقاري الذي تراجع البيع فيه، وأعلنت شركات إفلاسها مثل «صايفكو» و«بدوي غروب» وغيرهما لم يظهروا بعد، إضافة إلى تحذير جمعيات التجار من الركود الاقتصادي، وتدني القدرة الشرائية، وكذلك تراجع الصادرات الصناعية والزراعية، وإنكفاء في الحركة السياحية.
الحريري يحذر
واعترف الرئيس الحريري بأن أزمة اقتصادية–مالية مقبلة على البلاد، وخفض من تفاؤله بحلها إذا لم تشكل الحكومة، وقد تكون رسالة أطلقها لحث القوى السياسية والكتل النيابية على حل عقد ولادة الحكومة التي إذا لم تبصر النور، فإن صيف لبنان غير واعد مالياً واقتصادياً، وسيكون صعباً على اللبنانيين.
Leave a Reply