وليد مرمر – لندن
من بديهيات علم السياسة أن مهمة السفير في أي بلد –باختصار– هي ترؤس البعثة الدبلوماسية لبلده وتطوير علاقته مع البلد المضيف تحديداً. ومهمة السفارة هي تمثيل حكومة بلدها في الخارج بالإضافة إلى توفير تحليل واضح للحالة السياسية في الدولة المضيفة. وحتى لو تم الأخذ بالمعنى المطاطي لتعريف «السفير» حسب بيتر ميليت، السفير البريطاني السابق في كل من الأردن وليبيا، بقوله إن «مهمة السفير تغطي مجموعة واسعة من الأنشطة كأمن المملكة المتحدة وما يتعلق بمسائل الإرهاب وما إلى ذلك… وتعزيز التجارة البريطانية والتصدير ومساعدة الشركات البريطانية فضلاً عن حماية القنصلية وحماية المواطنين البريطانيين». أما اتفاقية فيينا، عام 1961، للعلاقات الدبلوماسية فتحدد مهام السفير بتمثيل البعثة الدبلوماسية وحماية مصالح الدولة المعتمدة ومصالح رعاياها والتفاوض مع حكومة الدولة وكتابة التقارير وتطوير الصداقة وتنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية والعلمية… إلخ.
لكن ما قامت به سفيرتا الولايات المتحدة وفرنسا في لبنان، منذ أيام، يخرج عن كل الأعراف الدبلوماسية ويُعتبَر سابقة في العلاقات بين الدول وينافي أبسط بنود اتفاقية فيينا ومبادئ العلاقات السياسية بين الدول.
إذ أعلنت السفارتان بشكل مسبق عن زيارة ستقوم بها السفيرتان، إلى السعودية يوم الأربعاء الماضي. وجاء في بيان السفارة الفرنسية أن زيارة السفيرة آن غاريو للسعودية هي «للبحث في سبل الضغط على السياسيين اللبنانيين من أجل تسريع تشكيل حكومة قادرة فعالة وذات مصداقية للقيام بإلاصلاحات الضرورية».
أما السفارة الأميركية في لبنان فقد نشرت على موقعها الإلكتروني أن السفيرة دوروثي شيا، سوف تغادر إلى المملكة العربية السعودية برفقة السفيرة الفرنسية لعقد اجتماعات مع مسؤولين سعوديين في الثامن من شهر تموز الجاري. وجاء في البيان أن «هذه الزيارة تأتي عقب الاجتماع الثلاثي بشأن لبنان الذي عُقِد في 29 حزيران الماضي على هامش مؤتمر قمة مجموعة العشرين، في مدينة ماتيرا الإيطالية، وضم كلاً من وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن ووزير الخارجية الفرنسي جان–إيف لودريان ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود.
أما الاجتماع المذكور فلم يصل لنتيجة مباشرة بسبب طلب الرياض منحها مزيداً من الوقت من أجل إعطاء بعض الأجوبة حول موقفها من تشكيل الحكومة وترؤس سعد الحريري لها وغير ذلك من التفاصيل المحورية في الأزمة اللبنانية.
وأضاف بيان السفارة الأميركية أنه «خلال اجتماعاتها في المملكة العربية السعودية ستبحث السفيرة دوروثي شيا خطورة الوضع في لبنان وسوف تؤكد على أهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني، فضلاً عن زيادة الدعم للجيش وقوى الأمن الداخلي مع التركيز على تشكيل الحكومة وحتمية إجراء الإصلاحات العاجلة والأساسية التي يحتاجها لبنان بشدة».
ولم تكن أوساط محور المقاومة هي الوحيدة التي استهجنت هذه الزيارة الخارجة عن البروتوكولات الدبلوماسية. فلقد اعتبرت صحيفة «الرأي» الكويتية وحسب «أوساط مطلعة»، أنه و«بصرف النظر عن مآلات الحِراك الفرنسي–الأميركي، فإن السابقة الديبلوماسية في العلاقات بين الدول التي شكّلها قيام سفيرتين بزيارة بلد ثالث لبحث أزمة البلد المعتمدتين فيه لها أبعادٌ بارزة لجهة نزْع الاعتراف ضمناً بشرعية السلطة في لبنان امتداداً لإشاراتٍ غربية متلاحقة إلى أن التعاطي مع غالبية الطبقة السياسية بات على قاعدة أنها شبه خارجة على القانون»! وأضافت صحيفة «الرأي» ودائماً حسب «الأوساط» أن السفارتين الأميركية والفرنسية قد أعلنتا جهاراً، الانتداب السياسي الذي كان موجوداً بالخفاء!
وأضافت الصحيفة أن «أزمة لبنان بالغة الدقة في هذه المرحلة في المنطقة وذلك انطلاقاً من عدم اتضاح اتجاهات الريح في الملف النووي ومتفرعاته لجهة ترسيم النفوذ في المنطقة مما يعكس أن بلاد الأرز قد تكون أمام مرحلة أشدّ قسوة من التجاذبات فيها وعليها ريثما تنقشع الرؤية في المحيط».
وبموازاة إعلان السفارتين الأميركية والفرنسية عن أهداف الزيارة المعلنة فأنه يبدو أن في أولويات السفيرتين اللتين فوضتا نفسيهما «سفيرتين فوق العادة»، من أولوياتهما رصد رياح الرياض تجاه اعتذار الحريري واستمزاج مدى تقبلها لتكليف شخصية سنية أخرى لترؤس الحكومة، قد يكون الرئيس نجيب ميقاتي صاحب الحظ الأوفر فيها.
ويدور في الأوساط السياسية اللبنانية كلام عن نية رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الاعتذار عن تشكيل الحكومة وذلك على خلفية تعثر مبادرات الوساطة التي قام بها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري لحل الخلافات القائمة بين الرئيس اللبناني ميشال عون وفريقه السياسي من جهة وبين رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وفريقه السياسي، «تيار المستقبل» من جهة أخرى.
ولكن يوم الخميس الما ضي اعتبر النائب جبران باسيل، رئيس «التيار الوطني الحر»، وفي كلام لافت، أن اعتذار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريرى عن عدم التشكيل هو خسارة بالنسبة للتيار وليس هدفاً له كما يعتبر البعض مؤكداً الاستعداد للقيام بأي خطوة من شأنها المساعدة في استمرار الحريري بمهمته وعدم إضاعة المزيد من الوقت الذي يجب استثماره في ضبط الانهيار. وأضاف باسيل أن التيار «أكبر الخاسرين من اعتذار الحريري»، معتبراً أنه قام بكل شيء كي تنجح عملية تشكيل الحكومة الجديدة.
وبعد تعثر التأليف لأشهر عديدة بات واضحاً للمراقبين أن السبب الحقيقي لتعثر التأليف هو الـ«فيتو» السعودي وليس أية خلافات داخلية كما قيل. وفي هذا السياق تحديداً، جاءت زيارة السفيرتين الأميركية والفرنسية إلى السعودية في محاولة أخيرة لتعويم فرص الحريري أو من ينوب عنه لتشكيل الحكومة بمباركة سعودية.
وتقول جهات عدة إن الاهتمام الإقليمي–الدولي بلبنان يتمحور حول قاعدة منع الانهيار النهائي الذي بات وشيكاً والذي ستكون له تداعيات «خطيرة» لو حصل وسيأخذ بالبلد كاملاً إلى «المحور الإيراني». وفي هذا الإطار جاءت المساعدة القطرية الأخيرة للجيش اللبناني الذي يعتبر صمام الأمان الأخير لوحدة لبنان. وفي هذا السياق أيضاً، تقوم فرنسا بدعم حلفائها في هذه الظروف العصيبة عبر إنفاق عشرات الملايين على منظمات المجتمع المدني العديدة.
وبالعودة إلى زيارة السفيرتين إلى الرياض فقد اعتبر منتقدو الزيارة أن مناقشة السفيرتين للأوضاع الداخلية اللبنانية مع المسؤولين السعوديين يُعد تدخلاً سافراً بالشأن الداخلي اللبناني وهو إنما يذكرنا بزمن الوصاية والانتداب. وقد أطلق البعض على وسائل التواصل الاجتماعي على السفيرتين لقب «المندوبتان الساميتان».
خرست أبواق «السياديين» اللبنانيين من كبيرهم إلى صغيرهم، فلم يستنكر أحد منهم هذه الزيارة بل لم يتجرأ أي منهم على انتقادها ولو حتى شكلياً. ولم تجد مصادر بكركي على سبيل المثال أي حرج من التصريح لصحيفة «الجريدة» الكويتية تعليقاً على زيارة السفيرتين إلى السعودية أن الزيارة حصلت «لأن السفيرتين إلى جانب السفير السعودي على اتصال وثيق بكل الملفات»! وليت هذه المصادر أخبرتنا أين أصبحت «السيادة» التي تتشدق بها بكركي ليل نهار فيما يتم بحث الملف اللبناني من قبل ثلاث دول بغياب أي ممثل للبنان! والأنكى من ذلك كله، أن هذه الزيارة تزامنت مع احتفال أُقيم في الصرح البطريركي لمناسبة صدور كتاب «علاقة البطريركية المارونية بالمملكة العربية السعودية» للآباتي أنطوان ضو الأنطوني، برعاية البطريرك الراعي وحضور السفير السعودي في لبنان، وليد البخاري.
ولقد أتخم البطريرك أسماع الحضور بمآثر السعودية وتفضلها على لبنان فهي «لم تسع يوماً إلى تحميله وزراً أو صراعاً أو نزاعاً بل كانت تهب لتحييده وضمان سيادته واستقلاله وفي الواقع لم تعتد السعودية على سيادة لبنان ولم تنتهك استقلاله ولم تستبح حدوده ولم تورطه في حروب ولم تعطل ديمقراطيته ولم تتجاهل دولته».
وفي هذا تلميح لا يخفى على أحد إلى اتهام البطريرك لإيران بالقيام بهذه الأدوار المزعومة عبر دعم المقاومة في لبنان. ولعل البطريرك نسي أو تناسي الويلات التي عاناها الشعب اللبناني بسبب التدخل السعودي السافر عبر دعمه للقوى اليمينية خلال الحرب الأهلية وهو التدخل الذي أوصلنا إلى «الدستور المصيبة» في اتفاق الطائف… ولعله نسي أيضاً دعم النظام السعودي وتمويله وتسليحه لفصائل «النصرة» و«داعش» في تلال القلمون المطلة على لبنان والتي كانت ترسل السيارات المفخخة لتعيث دماراً وقتلا بالشعب اللبناني، قبل هزيمتها من قبل المقاومة والجيشين اللبناني والسوري!
وبالعودة إلى «المندوبة السامية» الفرنسية، لا بد من الوقوف على ما قالته غريو في لقاء جمع الحكومة اللبنانية بالسفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية، بنسفها لنظرية محاصرة لبنان اقتصادياً، وذلك في معرض ردها على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، محمّلة الطبقة الحاكمة مسؤولية تردّي الأوضاع المعيشية في لبنان.
ربما قد فات السفيرة أن رئيس بلادها إيمانويل ماكرون زار لبنان بعد انفجار المرفأ محاولاً تعويم الطبقة السياسية التي انتقدتها.
وكان دياب قد ألقى كلمة، الثلاثاء الماضي، أثنى فيها على عمل حكومته قبل أن يردّ مسبّبات الأزمة إلى «حصار خارجي»، متماهياً مع خطاب أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله الذي ألقاه قبل كلمة دياب بيوم واحد.
وأسهب دياب بالتحدث عن الوضع في لبنان، الذي يشارف على «الزوال»، طالباً العون من المجتمع الدولي بقوله: «أناشد عبركم الملوك والأمراء والرؤساء والقادة في الدول الشقيقة والصديقة وأدعو الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى المساعدة في إنقاذ اللبنانيين من الموت ومنع زوال لبنان». وهنا ردت السفيرة الفرنسية: «هذا الانهيار هو النتيجة المتعمدة لسوء إدارة وتقاعس منذ سنوات. ليس نتيجة حصار خارجي. هو نتيجة تتحملون مسؤوليتها جميعاً… وكل الطبقة السياسية… وهذه هي الحقيقة»، مضيفة: «كان بإمكانكم حتى وإن كنتم حكومة تصريف أعمال تفعيل قرض البنك الدولي»! وقد تم قطع البث عن المؤتمر أثناء إلقاء السفيرة كلمتها ولم تبث كلمات باقي السفراء.
وبغض النظر عن مدى صوابية كلام السفيرة الفرنسية فإنه من الواضح أن فرنسا ومن خلفها الولايات المتحدة قد باشرتا دوراً أكثر فعالية في لبنان حتى لو أدّى ذلك إلى تجاوز الأعراف السائدة. ومن الواضح أن الجهود الخارجية والداخلية تنصب الآن في خانة تنظيم مرحلة ما بعد اعتذار الحريري ومحاولة الاتفاق على شخصية تحظى بالرضى الإقليمي والدولي وبمباركة الحريري نفسه. وفي غياب أي دور حكومي فاعل يأتي تحرك الولايات المتحدة وفرنسا لملء الفراغ السياسي ومحاولة تحريك المياه الراكدة. لكنه –لا شك– حراك ينتهك السيادة اللبنانية التي يبدو أنها لم تعد في سلم أولويات الكثير من اللبنانيين في خضم الأزمات الخانقة التي يعيشونها هذه الأيام.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply