بين زيارة عون إلى موسكو .. وتهديدات بومبيو في بيروت
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
مثيرة للانتباه، جاءَت مواقف الرئيس اللبناني ميشال عون حين تبادل عبارات الترحيب بأول لقاء يُجريه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين، في أول زيارة رسمية له إلى روسيا، والتي طال انتظارها أكثر من عامين.
أوّل ما يثير الانتباه أن عون، الذي ذهب إلى موسكو بمطلب أساسي هو طلب المساعدة الروسية لحل أزمة النازحين السوريين، نحى جانباً هذا الملف في حديثه العلني أمام عدسات الصحافيين في المقر الرئاسي بموسكو، مفضّلاً التركيز على قضيتين أخريين: الجولان والقدس.
صحيح أن ملف النازحين، وما يحتله من أولوية في الأجندة اللبنانية، كان من بين مواضيع البحث الأساسية على جدول أعمال قمة عون–بوتين؛ وصحيح أيضاً أن قرار دونالد ترامب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، قد فرض نفسه على الحدث الموسكوفي؛ ولكن أن يستحوذ ملفا الجولان والقدس على حديث عون، لا بل أن يقرر رئيس الجمهورية توجيه انتقاد مباشر للرئيس الأميركي، ومن الكرملين تحديداً، لا شك أنه يحمل الكثير من الدلالات.
قد لا يعكس موقف الرئيس ميشال عون تحوّلاً في الموقف اللبناني، وانعطافة لبنانية في التموضع بين الولايات المتحدة وروسيا، ولكنه قد يمثل إشارة ما إلى أن ثمة استعداداً لبنانياً –على مستوى رئاسة الجمهورية والقوى الداعمة للعهد العوني– لطرق أبواب الروس، حين تكون مصالح لبنان مهددة. ثمة ملاحظة مثيرة للاهتمام في هذا الإطار أيضاً، فعشية الزيارة الرئاسية، بدا عون متحفظاً في الحديث عن موقع لبنان في الصراع القائم حالياً في العالم، إذ أجاب على سؤال للإعلام الروسي عن احتمالات تقاطع المصالح بين لبنان وروسيا، بالقول إن «للبنان وضعاً خاصاً ودقيقاً جداً، فهو مطوَّق، ويقع ضمن مثلث متساوي الأضلاع بين روسيا وأميركا والصين، فيما لا تزال السياسة العامة في الشرق الأوسط غير واضحة المعالم»، مشدداً على أنّ «وضع لبنان لا يسمح له بالاختيار، فهو لن يدخل في صراعات مع أي من الفرقاء، بل يسعى للتفتيش عن صداقات مع الجميع».
التسليح
كان ملاحَظاً أن عون أبقى على نافذة مفتوحة على مزيد من التقارب الروسي–اللبناني، حتى في المجال الأكثر حساسية، المتصّل بالمساعدات العسكرية للجيش اللبناني، وهو الملف الذي لا يخفي الأميركيون منذ سنوات انزعاجهم الهائل منه، ما أدّى إلى عرقلة الكثير من الهبات التي سبق أن عرضتها موسكو على لبنان، وهو ربما كان من الأسباب التي أدت إلى استبعاد وزير الدفاع اللبناني الياس بو صعب من الزيارة الروسية، حتى لا يتسبب ذلك بأي إحراج أمام الأميركيين، بحسب ما تسرّب إلى الإعلام.
ففي الحديث ذاته إلى وسائل الإعلام الروسية، سئل عون عن موضوع التسليح، فكانت إجابته التقليدية، حين قال إن «الأسلحة التي في حوزة القوى العسكرية اللبنانية تختلف عن الأسلحة الروسية حالياً، ولبنان يقوم باستقدام التجهيزات من أميركا، فيما استعمال الأسلحة الروسية يتطلب تغيير نظام الأسلحة المستخدم»، قبل أن يضيف أن «لبنان في حاجة إلى مصدر أسلحة… وفي المستقبل لا نعلم كيف يتطور الوضع». ما سبق، كان ضمن اختلافات عديدة يمكن ملاحظاتها بين سطور المواقف، بشأن احتمالات التموضع اللبناني بين الروس والأميركيين، ومن المؤكد أن ثمة ما سيدفع إلى تظهير هذا التموضع في المستقبل القريب، خصوصاً بعد أن تتضح تداعيات حدثين، أحدهما سبق الزيارة الرئاسية اللبنانية، وثانيهما تزامن معها.
زيارة بومبيو
الحدث الأول هو زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى لبنان، وما حمله من ترسانة تهديد وتحريض ضد «حزب الله» وإيران، وما قوبل به من موقف صارم على المستوى الرسمي اللبناني، عبر التأكيد على ثوابت بديهية، أهمها على الإطلاق أن «حزب الله» مكوّن أساسي في البيئة اللبنانية، وشريك أساسي في الحكم.
ولعلّها المرّة الأولى التي يسمع فيها مسؤول أميركي على هذا المستوى الرفيع كلاماً واضحاً بشأن «حزب الله»، وهو ما حمل عدداً من المحللين إلى التساؤل عن سبب هذه «الجرأة» اللبنانية من جهة، وعن التداعيات المحتملة للموقف اللبناني، الذي لا يُزعج الأميركيين فحسب، بل قد يثير غضبهم.
ثمة قاسم مشترك بين المراقبين في تفسير هذا التحوّل، وهو تنامي الدور الروسي في الشرق الأوسط منذ سنوات، وبلوغه مستويات متقدمة منذ نجاح الحملة العسكرية الروسية في تثبيت الدولة السورية، وما تحققه الدبلوماسية الروسية من اختراقات في الدول العربية، التي كانت حتى الأمس القريب مجالاً حيوياً للأميركيين، بما في ذلك دول الخليج.
كل ذلك، يشي بأن لبنان دخل بالفعل في بؤرة التجاذب الروسي–الأميركي، وهو ما يطرح العديد من الأسئلة حول المستقبل.
أسئلة
أوّل هذه الأسئلة، يكمن في احتمال أن يذهب لبنان في تموضعه باتجاه روسيا مباشرةً، وهو أمرٌ من المؤكد أنه خلافي في الداخل اللبناني، في ظل الانقسام السياسي التقليدي بين محور «حليف» لأميركا، ومحور آخر مقاوم لها. وأما السؤال الأهم، فيكمن في معرفة ما يمكن أن يحققه لبنان من مكاسب، في حال فُرض عليه الاختيار بين ذلك «المثلث المتساوي الاضلاع» الذي تحدّث عنه عون، والمخاطر المتصلة بذلك على مستوى السلام الهش، الذي حافظ عليه لبنان خلال السنوات الماضية، برغم وقوعه في قلب منطقة العواصف الإقليمية.
نظرياً، لا يمكن للبنان أن يعادي الولايات المتحدة، وهو ما يجعل التحفّظ سيّد الموقف في الحديث عن أيّة تموضعات إقليمية أو دولية، فالكثير من «أوراق اللعبة» ما زال في أيدٍ أميركية، والاندفاعة الروسية في الشرق الأوسط لم تكتمل ملامحها بعد، طالما أن الحرب السورية لم تحطّ أوزارها، وطالما الصراع وموازين القوى على خط موسكو–واشنطن لايزال يكتنفها ضباب كثيف.
ومع ذلك، فإنّ مستوى التباعد في المصالح بين لبنان والولايات المتحدة يتعمق يوماً بعد يوم، ويقابله، من الجهة الأخرى، تزايد في منسوب التقارب في المصالح بين لبنان وروسيا في أكثر من ملف.
التقارب مع روسيا
أول أوجه التقارب اللبناني–الروسي يكمن حالياً في ملف النازحين السوريين، في ظل الرؤية الموحدة تجاه ضرورة تأمين عودتهم من دون انتظار الحل السياسي، وهي الوجهة النقيضة لما يطرحه الأميركيون، سواء علناً، عبر ربط العودة بالتسوية، أو خفاءً، من خلال مشاريع التوطين.
هذا ما يجعل لبنان متمسكاً بالمبادرة الروسية –بدليل إدراجها في البيان الوزاري– ليس لكونها «المبادرة الدولية الوحيدة المطروحة حالياً» فحسب، وإنما لأنها تشكل مدخلاً حقيقياً لتجنيب لبنان مخاطر «وجودية»، وهو ما يجعلها عنصراً جوهرياً في أي تقارب لبناني–روسي. ومع ذلك، فإنّ هذه المبادرة لا يزال تطبيقها على أرض الواقع متصلاً بعوامل عدّة، تفوق قدرات روسيا نفسها في السياسة والاقتصاد، ما يعني أن الرهان عليها قد يكون مغامرة تنطوي على مخاطر كبيرة.
أما ثاني أوجه التقارب، وهو لا يقل أهمية عن قضية النازحين، فيتصل بمسألة الخلاف الحدودي بين لبنان وإسرائيل، والذي يطال ملف النفط والغاز، وفيه لم يعد خافياً، الانحياز الأميركي للمصالح الإسرائيلية، ما يجعل الولايات المتحدة وسيطاً غير نزيه في الحل، في وقت تمتلك روسيا مقوّمات عديدة للقيام بهذا الدور، سواء بوجود مصالح نفطية لها في هذا الملف (انخراط شركة «نوفاتيك» في عمليات التنقيب والحفر)، أو بوجود علاقات رسمية طبيعية –وإن متوترة– بين موسكو وتل أبيب. ومع ذلك، يبقى من الصعب تصوّر أن الولايات المتحدة ستتخلى عن حليفها الإسرائيلي، أو أن تقدّم ملفاً كهذا على طبق من ذهب للروس، وأن يمكنوهم «بالمجان» من توسيع نفوذهم في شرق المتوسط. ومع ذلك، فإنّ التحركات الأخيرة من الجانب الأميركي في الشرق الأوسط لم تعد تلامس لبنان فحسب، بل ستطاله بشكل مباشر، عاجلاً أم آجلاً. فتهديدات بومبيو ليست كلاماً عابراً، وقرار ترامب بشأن الجولان يعني لبنان بالدرجة الأولى، بالنظر إلى تداعياته المباشرة على قضية مزارع شبعا المحتلة، ما يجعله أمام خيار من اثنين، أحلاهما مرٌّ: إما الانصياع لإرادة البيت الأبيض، وإما طلب الحماية من الكرملين. كلا الخيارين خطيران، ويجعلان لبنان يسير في حقل ألغام، لا سبيل لتجنب انفجاره إلا بالثبات السلبي –بمعنى عدم التحرّك خطوة واحدة سواء إلى الأمام أو إلى الوراء– برغم كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر اقتصادية، أو محاولة كسب الوقت، ربما بانتظار ما ستحمله نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل.
بومبيو يقرّ .. وباسيل يشيد
في أعقاب زيارته إلى لبنان، أقر وزير الخارجية مايك بومبيو في شهادة له أمام لجنة المخصصات في مجلس النواب الأميركي صباح الخميس الماضي، بأحقية المطالب اللبنانية بعودة ما يقرب من 1.5 مليون لاجئ سوري إلى بلادهم بسبب الأعباء التي يشكلونها على الاقتصاد والديمقراطية في لبنان. تعليقاً على زيارته الأخيرة إلى بيروت، لفت بومبيو إلى أن وزارته «تقود الحديث حول كيفية تحضير الظروف المناسبة على الأرض داخل سوريا وكيفية تأمين الولايات المتحدة –مع شركائها العرب والغربيين– الظروف المناسبة لكي يتمكن هؤلاء اللاجئون من العودة إلى بيوتهم، وهذه هي المهمة المحددة التي يرغب بها الشعب اللبناني» وفق تعبيره.
ومن جانبه، أثنى وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل على شهادة نظيره الأميركي، مؤكداً عبر «تويتر» أن لبنان لن يرضى «إلا بالعودة الآمنة والكريمة» للنازحين. وغرد باسيل على صفحته قائلاً «شهادة الوزير بومبيو أمام الكونغرس بشأن النازحين خطوة متقدمة تؤكد أن الحوار الصريح والجريء والموقف الوطني الواضح هما أقرب الطرق لتحقيق المصلحة الوطنية».
Leave a Reply