كمال ذبيان – «صدى الوطن»
منذ أن غادر الرئيس سعد الحريري لبنان قبل نحو أربع سنوات، وبدأ الشح المالي لديه، مع تقاسم الثروة التي ورثها هو وأشقاؤه عن والده الرئيس رفـيق الحريري، وتعثر مؤسساته الإستثمارية سواء فـي السعودية ودول أخرى، ضرب «تيار المستقبل» الجفاف السياسي والشعبي، وبات الإرث السياسي الذي تركه الحريري الأب عبئا على نجله الذي تمّ اختياره ليكمل الطريق ويحمل الأمانة، بعد أن رفض أفراد العائلة ذلك واختاروا أن يبقوا رجال مال وأعمال، ولم يكن والدهم يؤهلهم ليتمرسوا فـي السياسة التي دخلها هو من باب الوسيط السعودي فـي الأزمة اللبنانية، وأثناء الحرب الأهلية فـي ثمانينات القرن الماضي، ولعب دوراً أساسياً فـي الحوار اللبناني – اللبناني، وإنتاج إتفاق الطائف،
وهو التسوية التي أنهت الحرب، وأوقفت الإقتتال بين اللبنانيين، وأقرّت إصلاحات فـي بنية النظام السياسي ولم تنفذ كلّها.
نواب كتلة «تيار المستقبل» في اجتماع سابق.(أرشيفية) |
فهذا التيار الذي ضمّ خليطاً من حاملي الأفكار السياسية والتوجهات العقائدية، وجلّ قيادته من الأشخاص الذين كانت لهم تجربتهم فـي أحزاب يسارية وتحديداً «منظمة العمل الشيوعي» التي كان يرأسها محسن إبراهيم قبل ربع قرن، وحلّها، ليلتحق أكثرية مَن فـيها «بتيار المستقبل» الذي فـي مكتبه السياسي عدد لا بأس به من الذين كانوا فـي المنظمة ومن أبرزهم: المرحوم نصير الأسعد، الوزير السابق حسن منيمنة، النائب السابق باسم السبع، محمد كشلي، بشرى عيتاني وآخرون، إضافة إلى مَن إنتمى إلى الحزب الشيوعي، أو إلتحق بحركة «فتح» أو ناضل فـي صفوف حركة «القوميين العرب»، أو عمل فـي مؤسسات الحريري، أو نال منحة جامعية منها.
هذا التكوين السياسي لـ«تيار المستقبل» الذي لا يستند إلى فكر سياسي أو عقائدي، وكل ما يروّج له هو المشروع الإعماري الذي أتى به رفـيق الحريري مع إنتهاء الحرب الأهلية، لإعادة بناء وسط بيروت، وما عُرف بمشروع «سوليدير» الذي حصل خلاف حوله، وهل يحق لشركة عقارية أن تستملك أملاكاً خاصة وعامة، مقابل بنى تحتية، وتجني أرباحاً بعشرات مليارات الدولارات، حيث نجح رفـيق الحريري فـي أن يستفـيد من هذا المشروع الذي خاض ضده أصحاب الحقوق من مالكي عقارات ومستأجرين معركة لوقفه واسترداد حقوقهم ونيل مستحقاتهم، لكنهم فشلوا.
فالحريري الأب، وصل إلى السلطة، بعد إتفاق الطائف، بقرار سعودي – سوري وغطاء أميركي – أوروبي، حيث تقاسم مع النظام السوري هذه السلطة، فكان الإعمار للحريري، والأمن والسياسة للقيادة السورية عبر حلفائها فـي لبنان وجهازها الأمني الذي كان يديره رئيس جهاز الأمن والإستطلاع فـي القوات السورية العاملة فـي لبنان العميد غازي كنعان ومن بعده العميد رستم غزالة، وقد مات الأول منتحراً فـي العام 2005، وبعد إنسحاب الجيش السوري من لبنان، والثاني قضى قبل أشهر دون تحديد السبب الحقيقي لوفاته.
حكم الحريري منذ العام 1992 وحتى نهاية العام 2004، وبإنقطاع عن رئاسة الحكومة حوالي عامين، ومكّنه وجوده فـي السلطة من أن يقوي نفوذه فـيها، ويتوسلها ليزرع أتباعه وأنصاره فـي مفاصلها الأساسية مثل الأمانة العامة لمجلس الوزراء، مجلس الإنماء والإعمار، المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، مدعي عام التمييز، ووظائف رئيسية أخرى فـي الفئة الأولى، فكوّن حالة شعبية، بعد أن تقلّص دور بيوتات سياسية كآل سلام والصلح فـي بيروت وكرامي فـي طرابلس، لصالحه مدعوماً من النفوذ السوري.
هذه الحالة الحريرية السياسية ظهرت فـي كنف الوجود السوري، وبدعم مباشر من الثلاثي السوري المشرف على الملف اللبناني عبدالحليم خدام، اللواء حكمت الشهابي والعميد غازي كنعان، وأخذت بعداً شعبياً واسعاً، مع اغتيال الحريري فـي 14 شباط 2005، وأتّهم فـيها النظام الأمني السوري – اللبناني، وعلى خلفـية تهديد الرئيس السوري بشار الأسد للحريري أنه سيكسر لبنان على رأسه هو وجنبلاط، إذا لم يُمدد للرئيس إميل لحود، فاستغلت عملية الإغتيال ليلتف السُّنّة حول آل الحريري بدعم خارجي جاء من مجلس الأمن الدولي عبر القرار 1559 الذي طالب القوات السورية بالإنسحاب من لبنان، فاستفادت منه قوى داخلية لبنانية للمطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان، وأيّدتها أميركا وفرنسا صاحبتا القرار 1559، وهذا ما ترك الساحة اللبنانية تفرغ لقوى 14 آذار، التي رأت الفرصة مناسبة للإمساك بالسلطة، إلا أنها كان ينقصها المكوّن الشيعي، فكان التحالف الرباعي فـي إنتخابات 2005 النيابية الذي جمع حركة «أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي».
خرج السوريون من لبنان، وقرّر الحريريون الإستئثار بالسلطة، بعد أن باتوا الطرف الوحيد الأقوى فـي الطائفة السّنّية، حيث عمدوا إلى إصدار عفو عن موقوفـي الضنية من «جماعة التكفـير والهجرة» السلفـية التي اعتدت على الجيش وقتلت ضابطاً وعناصر منه، فتمّ إخراجهم من السجن بالتزامن مع العفو الذي صدر عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع المدان باغتيال الرئيس رشيد كرامي وداني شمعون وجرائم أخرى، حيث شكّل هذا العفو ضربة لآل كرامي أن يُفرج عن قاتل رئيس حكومة، وأن جريمة قتله هي أكثر خطورة من مقتل الحريري الذي يطالب ابنه بالعدالة لوالده، ويعفو عن قاتل رشيد كرامي وعن إسلاميين متشددين قاتلوا الجيش وهدروا دم ضباطه وجنوده.
كان سعد الحري يستعجل السلطة، ومعه مجموعة من الذين استثمروا دم والده ليصلوا إليها، وكانوا ابتعدوا عنها، وهكذا دخل العمل السياسي عبر حكومة ترأسها فؤاد السنيورة، حتى يكون أنهى فترة تأهيل سياسية، كانت صعبة عليه، إذ خسر ما ربحه من شعبية مع اغتيال والده، وأضاعها فـي تركيب شهود الزور فـي هذه الجريمة، من أجل الإنتقام السياسي والشخصي من الرئيس السوري بشار الأسد وقادة الأجهزة الأمنية اللبنانية – السورية، فكانت شهادات لكل من محمد زهير الصديق، وهسام هسام، وميشال جرجورة، وغيرهم ممن تمّ إرسالهم إلى لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، الذي أظهر خلال ممارسته لمهامه أنه مرتشٍ، فجاء إنكشاف شهادات الزور لتضرب صدقية سعد الحريري الذي اعتذر فـي حديث خاص لجريدة «الشرق الأوسط»، ممن وجّه الإتهام إليهم، لاسيما الرئيس الأسد الذي زاره فـي دمشق عام 2009 معانقاً ونائماً فـي مخدعه، فقضت هذه الحادثة على مسيرته السياسية، وبدأ تراجعه الذي تزامن مع توقف مشاريعه فـي السعودية أو تراجعها وانكشاف حصول هدر أموال وسرقات قام بها موظفون فـي مؤسساته وتحديدا فـي شركة اوجيه، مما أثر على نفقاته، فبدأ سياسة تقشف، فتركه كثيرون ممن كانوا معه لأسباب مالية، كما تأثّرت مؤسساته الصحية والإجتماعية والتربوية والإعلامية، وأقفل البعض منها، قبل حوالي ثلاث سنوات، واتبعها بإقفال أغلبيتها، مع تأخر فـي دفع الرواتب.
وقد زاد من تراجع «تيار المستقبل» خروج الحريري من رئاسة الحكومة مطلع العام 2011، ومجيء نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، ومغادرته لبنان وعدم عودته إليه إلا لأيام قليلة خلال مرحلتين ناقلاً الهبة السعودية للجيش، وهو ما أثّر على وضعية تنظيمه السياسي الذي أضعفته الأزمة السورية التي كان الحريري يراها كما خصوم غيره للنظام السوري، أنها ستعجل بإسقاط الرئيس الأسد، فـيمكنه من العودة إلى لبنان عبر مطار دمشق ليحكم فـي لبنان دون مضايقات، بحيث يضعف معه «حزب الله» الذي يقاتل إلى جانب النظام الذي لم يوفر الحريري أن يقدم الدعم لمعارضيه بالسلاح والمال والغذاء باعترافه هو، لكن الأزمة طال أمرها فـي سوريا وتغيّرت الأدوات، لتتقدم القوى الإسلامية المتطرفة «كجبهة النصرة» و«داعش»، وهذا ما بدأ ينعكس على الساحة السّنّية التي رأت بهما أنهما يمثلان مشروعاً إسلامياً، وليس «تيار المستقبل» الذي ينعته «الإسلاميون» بالكافر لأنه يعتمد النهج العلماني وليس الشريعة الإسلامية.
وبدأ المستقبل يحاصر من قبل المجموعات التكفـيرية التي نمت فـي مناطقه واستقطبت عناصر منه واخترقته، وبدأت تأكل من صحنه، حيث شعر أن الأرض يسيطر عليها «الإسلاميون» فـي طرابلس والشمال أو البقاع وبعض أنحاء بيروت وصيدا، فقرّر مواجهتهم بالخطة الأمنية، التي نفّذها وزير الداخلية نهاد المشنوق، وهذا ما أغضب «هيئة العلماء المسلمين» التي تضم حوالي 400 شيخ سلفـي وتمسك بعدد لابأس به من المساجد وتتلقى دعماً خارجياً، فشنّت الهيئة حملة على المشنوق، فاستغلّها وزير العدل أشرف ريفـي الذي كان يسايرها ويتماهى مع قيادات معها ومع غيرها، ليكسب شعبية له فـي طرابلس، بدأ العمل عليها عندما كان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، برفع صوره فـي عاصمة الشمال تحت اسم «ابن البلد»، حيث رأى ريفـي أن باب السياسة فُتح له، بعد أن تقاعد عندما رشّحه الحريري لرئاسة الحكومة عقب استقالة ميقاتي، فلم يعد «رأسه يحمله» كما يقول المثل الشعبي، لكن لم يحالفه الحظ، لأن اسمه مرفوض كونه متطرّف فـي مواقفه، فعُيّن وزيراً للعدل، وعينه على منصب نيابي، ورئاسة الحكومة التي ينافسه عليها المشنوق، الذي تربطه علاقات مع مسؤولين سعوديين، يرون بوزير الداخلية، أنه الشخصية السّنّية المؤهلة للعب دور، بعد أن استنفذ دور السنيورة، وأن تمام سلام هو لمرحلة مؤقتة، وقد يجتاز دورة ثانية فـي رئاسة الحكومة لأدائه الجيد فـيها، إذ أن الحريري مستبعد أن يعود إلى لبنان فـي القريب العاجل، وهو يربط عودته بالتطورات السورية المتسارعة، بالرغم من توجيه دعوات له، حتى من أطراف على خصومة سياسية معه، للعودة والإمساك بتياره السياسي وساحته السنية كي لا يلتهمها المتطرفون، ويملأون الفراغ الذي بدأ يحدثه تراجع «تيار المستقبل» حيث يبذل أمينه العام أحمد الحريري جهداً لبناء كوادر فـيه، وتنظيمه مؤسساتياً، إلا أن الفكرة عن التيار أنه مكان للتوظيف السياسي، مما أفقده الكثير من رصيده السياسي.
فغياب الحريري عن رئاسة التيار، وعدم تفاعله مع قياداته وأعضائه، ترك للمصالح الشخصية أن تدخل عليه، وتتقدم لعبة المحاور داخله، ويظهر فـيه صقور وحمائم، كما خطابين سياسيين مختلفـين، إضافة إلى أن نواب المستقبل ووزرائه لم يقدموا أداءً جيداً وغياب مشاريع إنمائية للمناطق النائية فـي عكار والضنية وعرسال وشبعا وإقليم الخروب وصيدا، حيث تزداد البطالة ويتفاقم الفقر فـيها، وهي فـي نفس الهموم لمناطق لبنانية أخرى، إلا أن المواطنين الذين منحوا المستقبل أصواتهم وأعطوا ثقتهم لنوابه واحتشدوا فـي تظاهراته، لم يروا فـيه ما يضيء مستقبلهم، بل هم يعيشون معه على الماضي، حيث يردد البعض أن «تيار المستقبل» أصبح من الماضي، وبدأ ينخره مرض السلطة وهو ما استدعى من الحريري ان يتدخل ليصالح المشنوق وريفـي ويصلح بين السنيورة وعمته النائب بهية الحريري ويرد انتقادات النواب خالد الضاهر ومحمد كبارة ومعين المرعبي .
Leave a Reply